في حاجة العرب إلى الجزائر
حواضر العرب التاريخيّة اليوم في دمار وانحطاط؛ الموصل وتعز وحلب يجري نسف تراث تمدّنها وسحق مجتمعاتها بمثابرة متحمّسة على أيدي قوات أجنبية، وأنظمة عربية، ومليشيات طائفيّة. أما القاهرة وبيروت ومراكش فترزح تحت قمع سياسي، وفشل تنموي وتمييز اجتماعي.
لم ينجُ من هذا الواقع المظلم إلا مدن الخليج العربي، ولكنها منغلقة، وذات سلوك انتقائي في تعاملها مع العرب، نتيجة هواجس أغلبها سياسي، وبعضها للأسف تمييزي. المحصلة النهائيّة لهذا الوضع أن المهنيين والمثقفين والقيادات السياسية والتجّار بلا حواضر عربيّة تستقبلهم وتفتح أمامهم أفق العمل في مناشطهم، وكان نتيجة هذا الغياب تلقّف مدينة إسطنبول المنفيين والهاربين من القمع والاحتراب. على الرغم من الجانب الإيجابي لهذا الأمر على مستوى الأفراد، على المدى البعيد، يجمل هذا الاستقبال التركي للنخب العربيّة جوانب سلبيّة قوميًا؛ تعود إسطنبول اليوم كما كانت في عهد الخلافة العثمانيّة مركزًا يشفط عصارة المدينة العربيّة ليتركها يابسة هزيلة، ولكن هذه المرّة بأيدي العرب، أنظمةً ومليشيات، لا بأمر السلطان.
الموصل وتعز وحلب يجري نسف تراث تمدّنها وسحق مجتمعاتها بمثابرة متحمّسة على أيدي قوات أجنبية، وأنظمة عربية، ومليشيات طائفيّة
في الوقت نفسه، احتكر الخليج العربي (السعوديّة والإمارات تحديدًا) منذ 2013 زمام المبادرة وانتقل الثقل السياسي العربي كله إليها نتيجة تهاوي مراكز الثقل العربية (مصر والعراق وسوريّة) بفعل تداعي الاقتصاد وإغلاق المجال العام والحروب، ما ترك فراغًا شاسعًا ملأته الإمارات بعد إسرائيل وإيران وتركيا، بينما ترقد العربية السعوديّة، الدولة الخليجية الوحيدة التي تمتلك مقومات دور قومي حاسم، في غيبوبة الانجرار وراء السياسة الإماراتية التي تتعامل مع الوطن العربي بعقلية وشَرَه استعمار.
خلاصة التحليل أعلاه أن ثمة حاجة عربيّة إلى طرفٍ يدخل المنافسة الإقليمية، ويحقق توازنًا استراتيجيًا، وليس ثمّة طرف عربي عنده الاستعداد التاريخي لهذه المهمة وشروطها مثل الجزائر. .. أضخم البلدان العربية مساحةً، وثانيها من حيث عدد السكان، تقع في إفريقيا وتطل على أوروبا، وتمتلك ثروة نفطيّة كبيرة، وقرارها السياسي متحرّر من ضغط الديون الخارجيّة، علاوة على تراكم سياسات التنمية فيها منذ 1962، والتي على الرغم من فشلها في بعض الجوانب، خصوصا في تجاوز اقتصاد الريع، استطاعت تحقيق إنجازات مهمة في محو الأمية والقطاع الصحي وبناء رأس مال بشري تظهر جودته في الأكاديميا وتكوين النخب، وهي أخيرًا شهدت انتفاضة شعبيّة عام 2019 فتحت أفق التحوّل الديمقراطي في مجتمع مدني ضخم يعاني الترهل، ولكنه ليس كسيحًا.
تمتلك الجزائر ميزتين تاريخيّتين: المكانة الأمميّة التي تتمتع بها الثورة الجزائريّة، وممارسة الجزائر دورا قوميا كبيرا في العالم العربي منذ بدايات الاستقلال وحتى الحرب الأهلية
تمتلك الجزائر ميزتين تاريخيّتين: المكانة الأمميّة التي تتمتع بها الثورة الجزائريّة، وممارسة الجزائر دورا قوميا كبيرا في العالم العربي منذ بدايات الاستقلال وحتى الحرب الأهلية (سنوات الجمر) في تسعينيّات القرن الماضي. وهذا يعني أن أجيالًا جزائريّة متلاحقة قد تدرّبت على الاهتمام بالمنطقة العربية. كل هذا مهم للعب دور قومي كبير، ولكنه ليس كافيًا. تبقى مهمتان في الإقليم يجب أن تنجزهما الجزائر، حتى تكون قادرة على استثمار ثقلها الاستراتيجي في السياسة العربيّة: قضية التوتر مع المغرب والمتجسّدة في إغلاق الحدود بين البلدين منذ 1994، وفي قضية الصحراء الغربيّة؛ يصعب على الجزائر الانطلاق عربيًا وإفريقيًا بدون أن تكون مرتاحة ومؤمّنة في إقليم المغرب العربي، كما أن هذا الإشكال يكلف الجزائر والمغرب خسائر اقتصاديّة وتمزيقًا اجتماعيًا وإفشالًا لمشاريع تنسيق إقليمي طموحة. ومع مقدم قيادة جديدة للجزائر بعد انتفاضة 2019 تكون اللحظة قد حانت لاتخاذ خطوات جديّة لحل هذا الإشكال، مع التخفف من تاريخ حزازاته الممتد منذ حرب الرمال عام 1963. المهمة الأخرى الدفع نحو حل في ليبيا، ويصعب على المرء تخيّل دور لدولة مركزيّة مثل الجزائر بدون أن يكون لها يدٌ في تأمين جار لها تؤدّي حربه الأهلية، علاوة على مآسيه الإنسانيّة، إلى إضعاف سياسي وخسائر اقتصاديّة للدول المحيطة (تونس خصوصا) وتهديد أمني مستمر، يمكن أن تستخدمه أطراف إقليمية ودولية لكبح حركة الجزائر، في حال سعت إلى تحقيق توازن قوى في المنطقة العربية.
الذهاب نحو تجاوز الفاتق الثقافي الأخطر للنخب المغاربيّة، وهو الاستقطاب العربي -الفرنكفوني، وهذه مهمة طويلة المدى
أما المدينة الجزائريّة فهي مؤهلة للعب دور الحاضرة العربية؛ من المهم التذكير بأن الجزائر العاصمة مثلًا أعيد اختطاطها على يد بُلُكّين بن زيري الصنهاجي، في القرن العاشر الميلادي، وربما تزامن تجديد مدينة الجزائر لتصبح حاضرة عربية – إسلاميّة، مع اختطاط الفاطميين القاهرةَ في مصر؛ أي أن تاريخ تمدنها ممتدٌّ وعريق. كما تتمتع المدينة الجزائرية برخص تكاليف المعيشة، بحسب المؤشرات الدوليّة، والخدمات المعقولة، ويؤهلها هذا كله لأن تكون مركزًا عربيًا، ولكن نجاحها في ذلك يستلزم أولًا إنجاز ثلاث مهمات تخص التحوّل الديمقراطي:
الأولى: ترسيخ توافق سياسي على طبيعة الدولة يتجاوز الفاتق السياسي الخطير عربيًا، وهو الاستقطاب الإسلامي - العلماني، وهذا ممكن في السياق الجزائري لعدة اعتبارات: تعدّد القوى الإسلامية في الجزائر، وتجربة انتفاضة أكتوبر 1988 وما تلاها، ومواقف وكتابات متوازنة لقيادات إسلامية في الجزائر منذ سنوات، ومواقف يساريّة وطنيّة وغير إقصائيّة، علاوة على مشاركة فصيل من الإخوان المسلمين في تشكيل الحكومات منذ التسعينيّات. وعلى الرغم من سلبياتها المتوقعة، من المفترض أن تلك التجربة أعطت إخوان الجزائر فهمًا للبيروقراطيّة ومعنى إدارة وزارات وهيئات.
حاجة عربيّة إلى طرفٍ يدخل المنافسة الإقليمية، ويحقق توازناً استراتيجياً، والجزائر عندها الاستعداد التاريخي لهذه المهمة وشروطها
الثانية، الذهاب نحو تجاوز الفاتق الثقافي الأخطر للنخب المغاربيّة، وهو الاستقطاب العربي -الفرنكفوني، وهذه مهمة طويلة المدى، وتحتاج حزمة سياسات دولتيّة إلى جانب حوار النخب، ولن يُضطلع بها بدون إنجاز المهمة الأولى.
أهمية إنجاز المهمتين السالفتين في سياق تجهيز حاضرة عربية هو تحصين النقاش العام الجزائري من المعارك الصفرية التي ستحدث في حال وجود هذين الفاتقين اللذين سيتعزّزان مع مقدم مجموعات سياسيّة عربيّة يَولَع متطرّفوها (من العلمانيين والإسلاميين) بتوسيع الشروخ الرأسية في المجتمع السياسي. وأعتقد أن التخوّف من هذا الأمر وتهديده التوافقات السياسية للداخل كان أحد الأسباب التي منعت المدينة التونسية بعد 2011 من احتضان النخب ورأس المال العربي، على الرغم من امتلاكها الشروط اللازمة لذلك.
الثالثة، إجراء إصلاحات قانونية في مجال حريات الصحافة. وفي شروط وبيئة الاستثمار والعمل؛ بدون إصلاحات فعّالة في هذين المجالين لن تستطيع الجزائر احتواء السياسيين والمثقفين والمهنيين العرب، ولن تستفيد من حركة الانتقال الكبيرة لرأس المال العربي الهارب من الاحتراب والبطش واهتراء القانون.