في ثمانين محمد خضّير
أمّا وأنّ القاص العراقي، محمد خضيّر، أكمل، قبل أيام، عامَه الثمانين، فهذه مناسبةٌ متجدّدةٌ للدعوة له بطول العمر، وهو الذي كتب، في مؤلّفه العالي القيمة، "ما يمسك وما لا يمسك .. إنشاءات سيرية" (منشورات المتوسط، ميلانو، 2017)، إنه، حين يبلغ عمرُه المائة من السنوات، ويحمُله أحفاده إلى شاطئ النهر، لتُداعب مويجاتُه المتدافعة برقّةٍ ونعومةٍ قدميْه الحافيتيْن، ستخطُر في رأسه لمحةٌ سريعةٌ لزورق أبيه المندفع في غياهب البحر. ويضيف "حينذاك، عند حدود المائة، كما أرجو، سأتذكّر أن زورق أبي كان قد تاه في عرض البحر المضيئة المتصاعدة من الأعماق المظلمة". كما أن هذا العيد الثمانين ليس مناسبةً للقول إن محمد خضيّر أيقونةُ السرد العراقي، كما فعلَ بعضُهم وكتبَ أخيرا، وإنْ هذا صحيحٌ في محملٍ ما، غير أنه تعبيرٌ سيّارٌ، تقليديٌّ في بعض مواضِعه، ما لا يستقيم مع المجرى الذي شقّت كتابة صاحب "بصرياثا" (1993) معابرَها وعلاماتها فيه. هي كتابةٌ مضادّةُ تماما للمعهود الذائع، نافرةٌ عن الخطوط المستقيمة المعلومة، أبرز خصائصها أنها تقيم في مناطق التباس، من حيث انتسابِها إلى غير جنسٍ سرديٍّ في آن، ومن حيثُ التوازي بين البساطة الزائدة والصعوبة الحاضرة في النصّ الواحد، أحيانا كثيرة (مثلا، "كرّاسة كانون" الذي ينتسبُ إلى الرواية إلى حدٍّ ما)، لا أتزيّد عندما أراه التباسا لافتا، باهرا أحيانا غير قليلة، يندّ لا عن براعةٍ ظاهرةٍ وحسب، وإنما أيضا عن وعيٍ خاصٍّ للكتابة وكيف تكون. وقد بسَط خضيّر، في مطالعاتٍ كاشفةٍ، ذكيةٍ، رؤيته هذه. ومن ذلك، مثلا، قوله في "إنشاءاته" السيرية (هل من عنوانٍ أبلغ التباسا من هذا؟)، إنه يعتقد إن أي عملٍ يُنتجه الكاتب هو برهانٌ على نموّه العقلي والحياتي، "ينمو الكاتب مع نموّ أعماله، فكأن العمل الجديد حلقةٌ في شجرة حياته كحلقات اللحاء في جذع شجرة .. كل عملٍ جديدٍ برهانٌ على هذا النحو". وأيضا "ليست الكتابة عمليةً هوجاء، تخرُج من فراغ، وتنطفئ في فراغ".
هناك، في مجموعته القصصية الثانية "في درجة 45 مئوي" (1978)، تُصادف لمحمد خضيّر قصصا تكون جماداتٍ أو أشياء محسوسةَ أبطالا في القصة التي لا شخصيات من البشر فيها. وذلك فيما صاحبُنا المجدّ المجدّد يُنتج قصصا أخرى، وهو المقلّ المتمهّل (4 مجموعات وروايتان)، تضجّ بشخصياتٍ منحوتة، موصوفةٍ بالتفاصيل، ومصوّرة من داخلٍ ومن خارج، يكتب عن نساء قصصه، مثلا (عذرا لكثرة الأمثلة)، في "إنشاءاته" السيرية في "ما يمسك وما لا يمسك"، إنه في ما مضى من سنواته التهويمية كان يتّصل بنساء قصصه في الأحلام، "نساء المطابخ والمواقد والمزارات والبيوت والحمّامات، الطاعمات الكاسيات، الناذرات والمنذورات، الحاملات الواضعات المرضعات، الباحثات الهائمات، ..".
لم يغادر محمد خضيّر البصرة، مدينته ومسقط رأسه وموطن حكاياتٍ ومشاهداتٍ استلهم منها فضاءات لقصص وسرودٍ غير قليلة له. وفي زمن "البعث" الصدّامي القمعي المديد، لم يُؤثر الخروج من العراق، ولا إبّان الحروب إيّاها، والتي احتملت فيها البصرةُ كثيرا مما لا يُحتمل. كان يكتُب، أو قلْ كان يتأمّل، ويُصغي للعراق وأهله، ثم يكتُب أدبا، شيئا من السيرة، مقالاتٍ عن الرواية والقراءة والتشكيل والأحلام والمكابدة في بلوغ الطمأنينة. لم يكن يبدو معزولا عن الدنيا والخارج، وإنْ يُؤثر العزلة أو يمدحُها بوصفها حاجةً للأدباء يحبّونها. ولا تُصادف له كتاباتٍ تزلّفَ فيها للنظام الساقط في بلده، ولا أقدَم في أخرى على الابتهاج بقدوم الذين خلفوا ذلك النظام. يبدو صاحب "المملكة السوداء" (أولى مجموعاته، 1972) على رهانٍ عتيق، وطويلٍ، وباقٍ، على النصّ الذي يصنعُه، على ملازمته الكتابة، ولا شيء غيرها، مكتفيا بوظيفته الحكومية سنوات، وأظنّها جائزة سلطان العويس توّجت نفسها بنزاهةٍ ومكانةٍ عاليتين لمّا مُنحت (العام 2004) لكاتبنا، خضيّر، الذي كان رهيفا في قوله، صادقا، إن نصوصَه، "بالطاقة الخيالية على التولّد والتجدّد، عبَرت زنازين الرعب الأيديولوجية وأزمنة الحروب المدمّرة". وقوله، عن حقّ، "لطالما تصوّرتُ حياتي وحياة نصوصي مقاطع من رؤيا مشتركة مع سكان بلادي، عمّالها وفلاحيها وكسبتها ومثقفيها، مزارعها ومصانعها وأسواقها ومدارسها، وكانت هذه المقاطع تنبثق في صيغة رؤيا، لا أمسك إلا بجزء منها" ..
عقبال العام المائة، محمد خضيّر، متّعك الله بالصحّة.