في تذكّر تلك اللاءات الأربع؟
بثّ تلفزيون العربي، الأسبوع قبل الماضي، حلقةً من برنامجه "مذكّرات"، عن السياسي الفلسطيني الراحل شفيق الحوت (1932 – 2009)، وجاءت على ما تضمنّه كتاب مذكّراته عن مشاركته في وفد منظمة التحرير في مؤتمر القمّة العربية في الخرطوم ومقدّماته عقب حرب حزيران. والمصادفة المحضة جعلت مشاهدة هذه الحلقة تسبق، بأيام معدودة، ذكرى إصدار تلك القمّة في ختامها، يوم 1 سبتمبر/ أيلول 1967، اللاءات الثلاث الشهيرة، وقد أوجز الحوت، في مذكّراته "بين الوطن والمنفى ... من يافا بدأ المشوار" (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2007)، أنها كانت في الأصل أربعَ لاءاتٍ، طرحتها المذكّرة التي تلاها رئيس منظمة التحرير، أحمد الشقيري، على قادة الدول العربية وممثّليها في القمّة. وكان، في كتابه السابق "عشرون عاما في منظمة التحرير الفلسطينية 1964 – 1984 ... أحاديث الذكريات" (دار الاستقلال للدراسات والنشر، بيروت، 1986)، قد استعرض تفاصيل التفاصيل لمداولات القمّة وكلمات المتحدّثين فيها، وقصّةَ تلك اللاءات التي جعل إنقاصُها إلى ثلاثٍ (كادت تصبح اثنتيْن) وفد المنظمة برئاسة الشقيري ينسحب من الجلسة الختامية، ويُصدِر بيانا احتجاجيا في الخصوص، وهو الذي كانت محاولاتٌ قد جرت لعدم دعوتِه إلى القمّة (استُضيف بدايةً في غير فندق الملوك والرؤساء ورؤساء الوفود، ثم انتقل إليه بعد غضبِه الشديد).
لسائلٍ أن يسأل عن جدوى استدعاء قصةٍ عتيقةٍ كهذه من الأرشيف العربي إلى اللحظة الراهنة. والإجابة هنا، سيما وأننا نقترب من الذكرى الثلاثين لتوقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وإسرائيل (اتفاق أوسلو)، أن الحاضر موصولٌ بمقدّماته في الماضي، بل هو ناتجُ مسارٍ يبدأ من تلك المقدّمات. والادّعاء هنا أن قمّة الخرطوم، بعد أقلّ من ثلاثة شهور على هزيمة حزيران 1967، كانت انعطافيةً إلى مسار التسويات مع إسرائيل، بل في الوُسع القول إن أولى ركلات التدحرج العربي الذي وصل فيه العرب إلى القاع الراهن بدأت من هناك. على أن التسليم بهذا الأمر لا تُجيز التبخيس من حضورٍ ظاهرٍ في أثنائها للإحساس الحادّ بالمسؤولية الوطنية عربيا، بعد الذي جرى من هزيمةٍ شنيعةٍ في تلك الحرب التي احتُلّت فيها الضفة الغربية وسيناء والجولان، كما يتبدّى في كلمات بعض القادة والمسؤولين العرب (جمال عبد الناصر والملك حسين والملك فيصل وعبد الرحمن عارف وغيرهم)، والذي ييسّره شفيق الحوت من توثيقٍ للكلمات التي قيلت بالغ الأهمية في تعريفنا بالمزاج العام الذي كان عليه أولو الأمر. غير أنّ له عظيم الدلالة قولُ صاحب الكتابيْن، وكانت مشاركته في مؤتمر الخرطوم أول مهمّة سياسية له، إنه فقد في الأثناء "براءته" السياسية، وأيقن أن اللون الرمادي هو الأكثر أماناً، وأنه أحسّ، لأول مرّة، في اجتماع تمهيدي للقمّة، بأن "ما كان بين بعض الدول العربية من أحقادٍ تكاد تفوق حقد أيّ منها على العدو المشترك".
أما اللاءات الأربع التي صارت ثلاثاً، فالتفاصيل بشأنها (وبشأن غيرها من أمور)، كما يوردها شفيق الحوت شارحاً ومُسهِباً، فمثيرةٌ وشائقة. كانت اللاءات، بإيجاز، كما طلب الشقيري من العرب أن يتبنّوها: لا صلح، ولا تعايش مع إسرائيل، ولا تفاوض معها مع عدم الاعتراف بالاحتلال السابق، و"لا انفرادَ لأي دولةٍ عربيةٍ بقبول أي حلٍّ لقضية فلسطين". (هناك إضافات في حواشي هذا كله). ولمّا صدر البيان الختامي للمؤتمر، جاء خاليا من التشديد على عدم الانفراد هذا. وإلى أهميّة هذا الأمر، حصرت الدول العربية التزامها "بإزالة آثار العدوان، ...، وتحرير ما استجدّ احتلالُه من الأراضي العربية". وعلى الرغم من اعتبار إسرائيل البيان "إعلان حرب"، إلا أن قول الحوت في محلّه إن هذه "أول إشارةٍ رسميةٍ عربيةٍ غير مباشرة إلى إقرار العرب بالوجود الإسرائيلي فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948".
انقضت يوم الجمعة الماضي 56 عاما على تلك اللاءات الأربع اللائي صِرن ثلاثاً. على الأصحّ، على تلك اللاءات الثلاث اللائي يُرادُ لهن أن يصِرن نُكاتا، ويُرادُ للذاكرة العربية أن يُمحى منها أنه حدث في يومٍ في تاريخ الأمة أن قادةً منها اجتمعوا وقرّروا عدم الصُّلح مع عدوّهم الأول، يُرادُ أن يتعزّز في هذه الذاكرة أن أيام توقيع كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والإبراهيميات كانت أوّل الكلام الذي ما قبله كلام ... رحم الله شفيق الحوت.