في تحوّلات صراع الجغرافيا السياسية الإقليمية
عند اندلاع احتجاجات الربيع العربي في 2011، بدا بالنسبة لمعظم شعوب المنطقة أنها لحظة تحوّل تاريخية من حكم الديكتاتوريات إلى عصر الديمقراطيات، لكنّها كانت بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية بداية صراع يسعى إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية. قبل هذا التاريخ، كانت إيران والسعودية الأكثر نشاطاً في هذه العملية من خلال التنافس الذي نشأ بينهما على النفوذ في عدد من الدول العربية. لكنّ التحوّلات التي أعقبت 2011 أفسحت المجال أمام قوى جديدة داخل المنطقة وخارجها للانخراط بفعالية في هذه المنافسة الجيوسياسية، كتركيا وروسيا وقطر والإمارات. بالنّظر إلى أن هذه التحوّلات أضعفت، على نحو كبير، من قدرة دول المنطقة على مقاومة التدخلات الخارجية، فإنها أسهمت، في المقابل، في صعود تأثير القوى الأخرى. وقد برز هذا الصعود بالانخراط العسكري الروسي والتركي والصراعين، السوري والليبي، ثم الانخراط العسكري الإيراني غير المباشر في الحرب اليمنية، فضلاً عن التدخل العسكري للتحالف الدولي بقيادة واشنطن في سورية والعراق من أجل مواجهة تنظيم داعش.
منذ عام 2011، شهدت المنطقة ثلاثة تحوّلات رئيسية، غيّرت من مسار الصراع الإقليمي والدولي على إعادة تشكيل جغرافيتها السياسية، ففي النصف الأول من العقد الماضي، انتهجت القوى الفاعلة في الإقليم وخارجه سياسة الانخراط غير المباشر في النزاعات العربية، قبل التحوّل إلى الانخراط المباشر في النصف الثاني من العقد. لكن مع دخول العقد الثاني من الصراع، بدأت القوى الإقليمية تميل تدريجياً إلى التخلي عن النّهجين السابقين، وتبني نهج جديد يُعطي أولوية للحوار والدبلوماسية في إدارة الخلافات بينها. وفيما تمكّنت روسيا من تثبيت حضورها القوي في شرق المتوسط، ونجحت في مدّه إلى جنوب المتوسط من خلال الحضورين، السياسي والعسكري، في الشرق الليبي، انحسر دور الغربيين في المنطقة مع تخليهم التدريجي عن دعم الربيع العربي والتركيز على مكافحة الإرهاب. هناك أربعة عوامل رئيسية أدّت إلى هذا التحوّل في التنافس الجيوسياسي الإقليمي من الصراع الحادّ إلى التهدئة وانخراط الأطراف الإقليمية كتركيا والقوى العربية في مراجعة سياستهما الإقليمية.
منذ 2011، شهدت المنطقة ثلاثة تحوّلات رئيسية، غيّرت من مسار الصراع الإقليمي والدولي على إعادة تشكيل جغرافيتها السياسية
أولاً: خلال العقد الماضي، انخرطت ثلاثة تكتلات إقليمية تقودها كل من تركيا والسعودية وإيران في صراعات متعدّدة الأوجه، لإعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة. وبالنّظر إلى أن التحالف الذي تقوده طهران اتّخذ موقفاً دفاعياً للحفاظ على مناطق نفوذه التي هدّدها الربيع العربي، فإن المنافسة بين المحورين، التركي والسعودي، أخذت طابعاً هجومياً وشغلت الحيز الأكبر من الجغرافيا العربية من شمال سورية إلى شمال إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي مروراً بالخليج. كلا المحورين حقق مكاسب في مناطق وأخفق في أخرى. نجحت تركيا في تكريس وجودها في شمال سورية وليبيا وقطر والصومال، بينما خسرت في مصر بعد إطاحة حكم محمد مرسي. بينما نجح التحالف السعودي ـ الإماراتي ـ المصري في استعادة مصر إلى حاضنته. على الرغم من ذلك، لم يتمكّن أي من الطرفين من إحداث تغيير جوهري لصالحه في خريطة التنافس الجيوسياسي، ما أدخل المواجهة بينهما في دائرة مغلقة، استنزفت من قدراتهما السياسية والعسكرية والاقتصادية، ما ساعد إيران في استثمار هذه الحالة لتعزيز حضورها في سورية ولبنان واليمن والعراق.
ثانياً: أدّى الانخراط العسكري الإيراني غير المباشر في الحرب اليمنية إلى تحوّل منطقة جنوب الخليج إلى ساحة صراع عسكرية بالوكالة بين طهران وخصومها الخليجيين. دفع هذا التحول بالسعودية إلى الانخراط المباشر في الصراع ضمن تحالفٍ جمع دولاً عربية، وحظي بدعم أميركي، لكنّه لم يؤدِّ إلى إنهاء حربٍ أخذت فيما بعد أبعاداً عسكرية أكثر خطورةً بعد الهجوم الكبير الذي يُعتقد أنه إيراني على منشآت أرامكو النفطية في 2019. بالتوازي مع ذلك، وضعت اتفاقات السلام التي أبرمتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل منطقة الخليج في قلب الصراع الإيراني الإسرائيلي، ما زاد من المخاطر على أمن دول الخليج، وعلى أمن إمدادات الطاقة التي تُعتبر مصدر دخل رئيسي للاقتصادات الخليجية. وقد شكّل هذا التحول ضغطا إضافياً على خيارات دول الخليج، ودفعها إلى البحث عن سبل جديدة لتهدئة التوتر مع طهران، حيث دفعت حرب الاستنزاف التي خاضتها إيران ضد السعودية ،عبر حليفها الحوثي، الرياض وأبو ظبي إلى البحث عن سبل للتفاوض معها لوقف هذا الاستنزاف.
ثالثاً: التحول الأميركي الذي برز مع مجيئ إدارة الرئيس جو بايدن نحو تقليل الانخراط في قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لصالح التركيز على مناطق أخرى، والتفرّغ لمواجهة الصعود الصيني. برز هذا التحوّل مع وقف الدعم العسكري الأميركي للتحالف العربي في اليمن وسحب منظومات صواريخ باتريوت من السعودية، والضغط على حلفاء واشنطن الخليجيين للدخول في تسوية مع الحوثيين، بالإضافة إلى شروع واشنطن في مفاوضات مع طهران للعودة إلى الاتفاق النووي. دفع هذا التحوّل دول الخليج التي كانت تعتمد على الولايات المتحدة في تأمين مصالحها الإقليمية إلى التكيف مع الوضع الإقليمي الجديد، للحدّ من تداعيات تراجع الدور الأميركي والغربي عليها، عبر الشروع في عمليةٍ لإصلاح العلاقات مع تركيا، لما تشكّله من قوةٍ يُمكن أن تُساعد الخليجيين في إحداث توازنٍ مع إيران بديلا واقعيا منخفض التكاليف ومربحا، في الوقت نفسه، على الصعيد الاقتصادي. في المقابل، برزت حاجة تركيا إلى إعادة التطبيع مع السعودية ومصر والإمارات لكسر عزلتها في صراع شرق المتوسط، واستعادة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع القوتين الخليجيتين لدفع اقتصادها المتعثر.
برزت حاجة تركيا إلى إعادة التطبيع مع السعودية ومصر والإمارات لكسر عزلتها في صراع شرق المتوسط، واستعادة العلاقات الاقتصادية والتجارية مع القوتين الخليجيتين
رابعاً: ظهور وباء كورونا الذي ألقى ظلالا سلبية على اقتصادات دول المنطقة، ودفعها إلى التركيز على سبل التعافي من تداعيات الأزمة الوبائية، والتكيف مع الوضع الجديد في مجال الاقتصاد. زاد هذا الأمر من الضغوط على القوى الإقليمية الفاعلة للتحول من نهج العسكرة في سياساتها الإقليمية إلى نهج إدارة التنافس فيما بينها عبر إعطاء الأولوية لتقليص النفقات العسكرية والاقتصادية على دورها الإقليمي، ومنح فرصة للدبلوماسية فيما بينها مع التركيز على التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة.
برزت نتائج هذه التحولات الأربعة مع مطلع العقد الثاني بالمصالحة التي أبرمتها تركيا والإمارات، وبانفتاح أنقرة على إصلاح العلاقات مع القوى العربية الأخرى، كمصر والسعودية، بالإضافة إلى رغبتها بإصلاح العلاقات مع إسرائيل، فضلاً عن شروع السعودية في مفاوضات مباشرة مع إيران بوساطة عراقية. شكّلت المصالحة التركية الإماراتية لحظة تحوّل مهمة في الصراع الجيوسياسي، إذ لا تنحصر نتائجها على العلاقات التركية الإماراتية، بل يتوقع أن تؤدّي إلى نقل العلاقات التركية العربية من مرحلة التنافس الجيوسياسي الحادّ إلى مرحلة إدارة هذا التنافس بشكل مربح للطرفين. تسبب العقد الأول من الصراع بفوضى واسعة النطاق في العلاقات الإقليمية الإقليمية، لكن دول المنطقة تتطلع الآن إلى طي هذه المرحلة، والانخراط في أجندات إقليمية إيجابية في لحظة تحول عالمي نادرة، تُتيح لها إدارة عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية، مع انحسار الدور الغربي الذي غذّى الفوضى الإقليمية خلال العقد المنصرم.