في بلادٍ اسمُها الذاكرة
ثمّة أرض نجهل عنوانها، ولا ندري في أية جهة تقع، بل لربما هي قارّة كاملة بتضاريسها ومجاهلها وغاباتها، تتخالط فيها الأنهار بالبحار، والليالي بالنهارات، تتموّه الأصوات وتتقافز الصور أو تتصادم، وثمّة ما يُدفن فيها أو يتوه ويغيب من دون أن يبحث عنه أحد. فيها أيضا غيلان تقشعرّ لمرآها الأبدان، وجدران يستحيل القفز فوقها، حرائق وجراح لا تندمل، ووجوهٌ تستدعي الدموع وأحداثٌ تدمي القلوب. هي الذاكرة باختصار، أرض ملأى بالمجاهل، حفرة عملاقة نرمي إليها كل ما عشناه، رأيناه، سمعناه، وأكوام من أخشاب وحصى قد تسند العمود الفقري فتعينه على النموّ والانتصاب، أو هي حجارة وحديد تثقل عليه، فتكسره أو تحنيه.
ثم هناك خزائن وأدراج وصناديق ملأى بألف لونٍ ولون. من قرن البوظة الذي وقع وتعفّر بالدموع والتراب، إلى كلماتٍ حُفظت من دون معانيها وكانت تساعد في فتح النوافذ والأبواب، إلى الأصوات الخفيضة التي تُسمع في الأسرّة فيما الأهل يتهامسون حول فنجان قهوة الصباح. الخطوات المسائية في الصيف البعيد وخرير الماء في السواقي الصغيرة، دفء السجّاد في البيت الشتوي ورائحة الكستناء، الدفتر الصغير بأوراقه المسطّرة، والحبر الأزرق يلوّن الأصابع ولا يُذهبه الماء ولا الصابون. التلفزيون الذي تتراقص صورته كلّما هبّ الهواء، وشتائم الكبار إذا جاء النرد معاكسا. أبي ينام على فخذيّ في قيلولة يوم الأحد، ويعدني بخمس ليرات إن أنا وجدتُ في شعره قملة. الطاولة التي أجلس تحتها بالساعات ولا أريد مغادرتها، ورائحة الهندباء إذ تختلط بالزيت والبصل المقلي. رائحة البحر الفسيح، والنزهات السياحية الطويلة في عطلات نهاية الأسبوع إلى القرى والجبال ومدن الساحل. رائحة أشجار الصنوبر، والبساط الذي يستلقي تحت الأغصان، بعد أن يمتلئ البطن أصنافا وحلوى وفاكهة. كآبة مساء الأحد والنعاس الذي يتسلّل إلى الأجفان وهي تحاول المقاومة في خلفية السيارة العائدة من زيارة العمّات. الأعياد. الأعراس. البلوغ. المآتم. الموت. الحرب...
لا تريد الذاكرة أن تتذكّر: الخوف بطعم الحريق، الخوف الذي يشلع القلب، الكوابيس، السحل والبتر والخطف على الهوية، وأصوات القنابل، وقصف الراجمات، والجدران التي تهتزّ، تميد، واللحاف الذي يصعد إلى الرأس، يدخل في الفم، كي لا تجدنا القذيفة وتحوّلنا إلى رماد. سنواتٌ جمر، سنواتٌ صدأ، سنواتٌ سكاكين تُعمل نصالها في الرأس والقلب والروح معا. العمر نديّ لكنّ ما يحيط به صخر، يباس، قحط، ودماء.
الحرب. لا نهاية لها. نفق طويل وليس في آخره نور. ومع ذلك، في العتمة تسقط الأقنعة وتذبل القناعات وتتآكل، القتل يُينع والروح تتشقّق والذاكرة تتفسّخ، أما القتلى فيتكاثرون، والقتلة يتزايدون، والخناق يضيق. لا هدنة، لا خلاص. حكمٌ بالإعدام، سجن مؤبّد، والعقوبة خسارات لا تحصى، إحساس هائل بالغدر، باليتم، عذاب أيوب الذي لا تدرك عنه السماء شيئا، محنة أيوب إنما من دون ربّه.
الهجرة. الغربة. البرد. المكان الجديد الذي لا يمحو ما تركت، الشعور بالذنب والخوف على من خلفتهم هناك. الهواتف المقطوعة. الرسائل التي لا تصل. الحرب التي صارت بعيدة، لكنها تحرق في كل لحظة عينيك، تشلّ دماغك، لسانك، يدك. لا تريد أن تخرُج، أن تختلط بالآخرين، تريد أن تُبقي ألمك حيّا فيك. أنت هنا صحيح، لكنك عالقٌ هناك. وهم النجاة. وهم الخلاص. وهم قطع حبل السرة المشتعل والنفاذ من حريق الانتماء. ورشة محو الذاكرة، تأديبها، تدجينها وتمكينها من إتقان النسيان...
في إطار عمله على الذاكرة، فال برغسون: ليس المهم ما يدفعنا إلى تذكّر الماضي، ولا أين تُحفظ الذكريات، بل الأسباب التي تجعلنا لا نتذكّر بعض الأمور. ... بمعنى آخر، ما الذي يجعل الذاكرة وثيقة الصلة إلى هذه الدرجة بالنسيان؟