في الموقف من الأزمة الأوكرانية وتبعثر الأخلاق
يُعنى علماء الاجتماع والنفس الاجتماعي بمسألتي "الانتقائية الأخلاقية" (Selective Morality)، و"التحلّل الأخلاقي" (Moral Disengagement)، وحسب المتخصص الإسباني في علم النفس، جوردي كويدباخ، فإن الأخلاق معايير اجتماعية تنظم سلوكياتنا. ويستخدم الناس القيم الأخلاقية للاسترشاد بها في أفعالهم وردود أفعالهم، فضلاً عن ضبط عمليات مواءمة هذه المعايير ضمن النسق الذي يكونون فيه والتحدّيات التي يواجهونها، إلا أن هذه المعايير قد تتعرّض أحياناً لامتحانات عسيرة، من خلال اصطدامها بتحيّزات معرفية أو ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو سياسية لدى أصحابها، حينها يجري تطويعها لتبرير الخروج والتمرّد عليها (لا مواءمتها فحسب)، أو ما نعرفه بازدواجية المعايير. الأخطر هو عندما يمضي أصحاب التحيزات والقوالب المسبقة أبعد من ذلك، فيمارسون "التحلّل الأخلاقي"، عبر إعطاء الذات حق الانفلات المطلق من المعايير الأخلاقية وتعطيل آلية إدانة النفس، وهو أمرٌ شائع في نزع الإنسانية عمّن نعدّهم خصوماً وأعداءً. حينها نجد أنفسنا متورّطين في تكييف أي تصرّفٍ وحشي وخبيث ضدهم، سواء منا أو من غيرنا، على أنه مُبرّر ومقبول معيارياً (التبرير الأخلاقي). كل ما سبق يستلزم توظيف آلية معرفية نفسية أخرى، هي "مركزية الذات"، بمعنى تحولنا، نحن ومن ننتمي إليهم ونحبهم ونتعاطف معهم، إلى معيار القياس والمقارنة والمُبايَنَةِ مع الآخرين.
حرصتُ على صياغة السياق المفاهيمي أعلاه وتركيبه، علّه يعينني على تأطير ما أراها مفارقات في سياق العدوان الروسي على أوكرانيا. أطراف هذه المفارقات متعدّدون وبمواقف متناقضة، وهي تشمل الموقفين الرسميين، الأوكراني والروسي، فضلاً عن المواقف الأميركية والغربية والصينية، إلخ، ثمَّ مواقف كثيرين بيننا، نحن المواطنين العرب العاديين. وإذا قمنا بعملية فحص متأنٍّ للتكييفات المختلفة للعدوان هنا، نجد أن الغالبية يمارسون "الانتقائية الأخلاقية"، وبعضهم تحلّل منها تماماً، فيما يستغرق بعضٌ ثالث في ترسيخ مركزية بغيضة للذات.
الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، الذي يؤنّب العالم كله بسبب تردّده أمام العدوان الروسي على بلاده، هو نفسُه كان قد أيّد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو 2021
لنأخذ الموقف الرسمي الأوكراني أولاً، الذي يرى، محقاً، أن ما يجري عدوان روسيٌّ على سيادة أوكرانيا وسلامة شعبها. تغفل الحكومة الأوكرانية هنا عن أن ثمَّة قبولاً عاماً بأن المعايير الأخلاقية، وإنْ كانت مطلقة، إلا أنها مرنةٌ أيضاً، بمعنى أنها قابلةٌ للمواءمة مع تعقيدات الواقع. هذه حقيقة ثابتة، يمارسها كل فرد فينا في حياته العامة، دع عنك الدول. من ثمَّ، تغدو مسألة إصرارها على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي مسّاً مباشراً بأمن روسيا القومي ومصالحها الحيوية في فضائها الجيوستراتيجي. أيضاً، نجد أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي يؤنّب العالم كله بسبب تردّده أمام العدوان الروسي على بلاده، ويطلب الدعم في مواجهته، هو نفسُه كان قد أيّد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مايو/ أيار 2021. وفيما يصرّ على رفض مزاعم روسيا في شبه جزيرة القرم والشرق الأوكراني، بل وفي كل أوكرانيا، فإن سفيره في تل أبيب، يفْغِن كورنيتشوك، كان قد عبّر، في منتصف ديسمبر/ كانون الأول 2021، أي خلال حشد الكرملين قواته على حدودها، عن دعم بلاده الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. إذا لم يكن ذلك كله انتقائية أخلاقية وتحللاً أخلاقياً، فماذا يكون؟
روسيا، أيضاً، لا تشذّ في سياق الانتقائية وانعدام الأخلاق. على مدى عقود، احتلت دولاً في شرق أوروبا ووسطها ووسط آسيا، وما زالت، حتى بعد استقلال هذه الدول، تعتبرها مجرد كواكب هامشية تدور في فلك مجرّتها. وفيما يزعم الكرملين أن من حق الأوكرانيين الناطقين بالروسية تقرير مصيرهم، فإنه لم يراعِ الحق نفسه للسوريين، عندما زعم أنه لبّى نداء نظام سورية "الشرعي"، للتدخل ضد طموحات شعبه بالحرية والانعتاق من قمعه وإجرامه. أما بقية القصة، عن الجرائم والمجازر الروسية في سورية، فهي أجلى من أن توضح، إذ إنها واقعٌ ما زلنا نتابع مشاهده الأليمة في بثٍّ حيٍّ ومباشر.
العدالة المطلقة من الصعب جداً أن تتحقق في أرض الواقع، ولكننا مطالبون بالسعي لتحقيق ما نستطيع منها
ينسحب الأمر نفسه على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وغيرهم. تخيّلوا أن واشنطن تُعَيِّرُ موسكو بانتهاك القانون الدولي عبر غزوها دولة ذات سيادة وعضواً في الأمم المتحدة! وماذا عن غزو العراق عام 2003، في انتهاك للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، وبناء على مزاعم كاذبة ومفبركة؟ لن أخوض أكثر في تاريخ أميركا الحافل بهذه المفارقات الساخرة. أما المهزلة الأخرى هنا، فهي تقريع واشنطن الوحشية الروسية للجوئها إلى "القصف السجادي"، وإحالتها إلى هذه الممارسة على أنها روسية، كما رأيناها في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة، في العاصمة الشيشانية، غروزني، ثمَّ في محافظة حلب السورية. أما القصف الأميركي العراق وأفغانستان فكان رحيماً بالزهور، ولم يكن "سجّادياً" بكل أنواع الذخائر والقنابل المحرّمة!
الأنكى أن تجد ساسة أميركيين وإعلاماً أميركياً يتغنون ببطولات الشعب الأوكراني وبثِّ مشاهد لهم وهم يصنعون قنابل المولوتوف في منازلهم للتصدّي للقوات الروسية الغازية، وقد كانوا يبرّرون قصف إسرائيل المناطق الفلسطينية في قطاع غزة وسفك أرواح المدنيين، بذريعة أن المقاومين الفلسطينيين يتحصّنون بين المدنيين ويتخذونهم دروعاً بشرية! وللمفارقة، هذا ما تزعمه روسيا في أوكرانيا اليوم. يطول الحديث هنا، وهو ينطبق على حلفاء أميركا الذين تذكّروا فجأة أن ثمَّة قانوناً دولياً يُنتهك، وأن ثمَّة أدوات ضغط ديبلوماسي واقتصادي وعسكري يمكنهم توظيفها لاحترام سيادة دولة، فيما لا نرى المعايير الأخلاقية ذاتها في سياقاتٍ أخرى.
الصين كذلك التي جعلت من مفهوم "سيادة" الدول بقرة مقدّسة لا ينبغي المسُّ بها لمنع أي نقد أو تدخل في ممارساتها الوحشية والقمعية ضد سكّانها من المسلمين، وضد حقوق الإنسان بشكل عام، تمتنع عن إدانة غزو روسيا أوكرانيا، وتحمّل الغرب المسؤولية، وإنْ كانت لم تؤيد الغزو ذاته، ذلك أنها تحبك سيناريو خاصاً بها لأخذ تايوان حرباً، إن لم تعد إليها سلماً.
تعاطفنا مع الشعب الأوكراني لا يجعلنا في صفِّ حكومته، ولا في صفِّ أميركا والغرب ضد روسيا
نأتي الآن إلى مواقف بعض المعلقين والمواطنين العرب. تعجب من أن كثيرين فينا لا يقلّون انتقائية أخلاقية، بل وتحللاً أخلاقياً من كل من سبق. فجأة تذكّرنا أن زيلينسكي يهودي، وأنه وحكومته مؤيدون لإسرائيل. لا أنفي أيّاً من ذلك، ولا أتعاطف معهما، مع ضرورة الإشادة بصمود زيلينسكي وحكومته في العاصمة، كييف، تحت القصف والتهديد بالاجتياح. لكن، بغضنا حكومة ونظاماً سياسياً مسألة، وتشفّينا بجراحات شعبٍ مغلوبٍ على أمره، مثل كثير من شعوبنا، مسألة أخرى. نزع الإنسانية عن الشعب الأوكراني الذي يعاني من الهمجية الروسية، ونظر بعضهم إلى نسائه أنهنَّ "رقيق أبيض" محتمل لا يقل قذارة وسفالة عن مقاربة الغرب، إيجابياً، لهم على أساس عرقي، وممارسة بعض الدول الأوروبية تمييزاً عنصرياً بغيضاً بين اللاجئين على أساس اللون والعرق. وتعاطفنا مع الشعب الأوكراني لا يجعلنا في صفِّ حكومته، ولا في صفِّ أميركا والغرب ضد روسيا، ولا ينتقص من تعاطفنا ووقوفنا مع قضايانا العربية والإسلامية، ولا يعني أنّا غافلون عن بطولات شعوبنا التي لا تجد دعماً غربياً ولا شرقياً. وبالمناسبة، هذه المركزية والتقوقع البغيض، لمسناها، وما زلنا، عندما يتعلق الأمر في مفاضلة بعضهم بين جراحنا، بين من يرى أن الجرح الفلسطيني ينفي ويلغي غيره ومن يعتقد أن الجرح السوري أو اليمني أو الليبي أو المصري أو السوداني أو العراقي، إلخ له الأثر والفعل ذاتهما.
ولا أجد هنا أبلغ من قول المولى جلَّ وعلا لأختم به هذا المقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ" (المائدة: 8). أفهم، طبعاً، أن العدالة المطلقة من الصعب جداً أن تتحقق في أرض الواقع، ولكننا مطالبون بالسعي لتحقيق ما نستطيع منها، وأن نسدّد ونقارب، لإنجاز العدالة النسبية على الأقل. أما الكارثة، فهي عندما يميل بعضنا إلى محاولة نقض الأسس المعيارية للأخلاق وتكييف الأمور، وليس تبرير الخروج عليها فحسب.