في المخزي سودانياً وفلسطينياً
لولا أنها "رويترز" هي التي طيّرت الخبر الأسبوع الماضي من الخرطوم، لربما استقبلناه ببعض شكوك، أو أقلّه بقلة الاكتراث، لكن وكالة الأنباء العتيدة ورّطتنا بمتابعة تفاصيله، لأهميةٍ ظاهرةٍ فيه، كبرى فيما يزعم صاحب هذه السطور، موجزه أن السلطات السودانية صادرت أصولا وأملاكا لحركة حماس. ولمّا أبلغ نائب رئيس الحركة في الخارج، موسى أبو مرزوق، "العربي الجديد"، إنه لا جديد في هذا الصدد، وإن لا علاقة للحركة بأكثر هذه الأصول، سرت فينا حيرةٌ بشأن القصة كلها، فالوكالة نقلت عن مسؤولٍ في "لجنة تفكيك نظام 30 يونيو 1989 واسترداد الأموال العام" (هذا اسمها)، لم تذكر اسمَه (بطلبه على الأرجح)، ما لم يكن معلوما أو ذائعا، بشأن استثماراتٍ لحركة حماس، في نحو 12 شركة (منها فندق ومطاعم وجبات سريعة وشركة صرافة)، عدا عن مليون فدّان من أراضٍ زراعية، وعقارات، تقدّر أصول هذا كله بنحو 1,2 مليار دولار، بحسبه. ثم تثور أسئلةٌ لا تلقى إجابات، بشأن حق السلطات السودانية في أن تفعل هذا، صحّت ملكية "حماس" هذه المشروعات والأصول، أم تعود إلى "رجال أعمال ومستثمرين فلسطينيين ليس لهم أي صلة تنظيمية بالحركة"، بحسب بيانٍ عقّبت به "حماس" على خبر "رويترز". وما إذا كانت هذه السلطات قد أخذت بإجراءاتٍ قانونيةٍ مضبوطةٍ في الذي قامت به، أم ارتكبت تعسّفا ألحق أذىً بأصحاب هذه الممتلكات. وهل تواصلت الجهات المختصّة في الخرطوم مع قيادة "حماس" لمّا أقدمت على هذا كله.
لم تعلن السلطات السودانية سابقا عن إجرائها هذا، ما يعني، بدايةً، أن أداءً طوطميا جرى فيه ما جرى، تكفّلت به أجهزة مخابرات. وكان حريّا بحركة حماس أن تكون شفّافة في حينه، إذا كان الذي عرفناه الأربعاء الماضي من "رويترز" ليس جديدا، على ما أفاد أبو مرزوق. وفي الأثناء، لأيٍّ منا أن يسأل عمّا إذا كان الحكم الراهن في الخرطوم يرى فعلا حركة حماس إرهابية، ما استوجب منه أن يُقدِم على ما أبلغ به المسؤول غير المسمّى في لجنة تفكيك نظام عمر البشير وكالة الأنباء العالمية. وإذا كان هذا هو منظور مجلس السيادة (دعك من حكومة عبدالله حمدوك)، كان عليه أن يصير شجاعا فيجهر بموقفه هذا، ما لن يكون مفاجئا، وهو الذي ينشط في دفع فواتير كثيرة لإسرائيل والولايات المتحدة. ولمّا كان مؤكّدا أن الحركة الفلسطينية الإسلامية لم ترتكب، في عهد حكم العساكر الراهنين في السودان، ولا في زمن البشير، ما يمسّ الأمن القومي للبلاد، ولا ثبت لها أي صلةٍ بفعل إرهابي هناك، فلأيٍّ منا أن يلهج بالسؤال الواجب عن البواعث التي أخذت السلطة في الخرطوم إلى هذا العمل، العدواني في واحدٍ من نعوته المستحقة.
وعندما نطالع، في غضون البحث في ما وراء خبر "رويترز"، إن الولايات المتحدة كانت قد سلّمت السلطات السودانية أسماء شركاتٍ ينبغي إغلاقها، فلواحدِنا أن يتحلّى بسوء الظن، وهذا من حسن الفطن على ما يُنبئ قولٌ مشهور، فيرجّح أن الذي أقدمت عليه هذه السلطات كان من استحقاقاتٍ مفروضةٍ على "مجلس السيادة"، من بين مطاليب عديدةٍ عليه تلبيتها، لنزع السودان من قوائم الإرهاب. يعزّز سوء الظن هنا أن "ملفّاتٍ أمنيةً عالقة" جرى بحثُها مع المسؤولين السودانيين، في زيارة وفدٍ أمني واستخباري إسرائيلي برئاسة وزير المخابرات، إيلي كوهين، في يناير/ كانون الثاني الماضي، الخرطوم (التقى حمدوك بالمناسبة). ولا حاجة إلى حصافةٍ لنعرف أن الصلات السودانية، إبّان النظام السابق، مع "حماس" (وغيرها)، حاضرة في المداولات الأمنية المتواصلة بين الخرطوم وتل أبيب.
هذا كله مخزٍ، يُعيب الحكم في السودان الذي ينأى، بهمّةٍ ظاهرة، عن بديهيات الانتساب إلى أمته العربية، ويتذرّع في فعلته أعلاه بأنه يقضي على "إرث" الإخوان المسلمين. وأيضا، يستحقّ أن يوصَف بأنه مخزٍ ما غرّد به رئيس هيئة الشؤون المدنية المدنية في السلطة الفلسطينية، حسين الشيخ، لمّا طلب من السلطات السودانية تسليم الأموال المصادرة إلى "دولة فلسطين وحكومة فلسطين"، فالأصل أن الحكومة والدولة هاتين مسؤولتان عن رعاياهما، ومن المعيب أن تتصرّف سلطةٌ عربيةٌ بأرزاق مواطنين فلسطينيين، من دون مراعاة البديهيّ من الأصول، ثم تعلم الدولة والحكومة أعلاه بفعلٍ شائنٍ كهذا من وكالة أنباء، فالمشهور أن منظمة التحرير ممثلةٌ للشعب الفلسطيني، وأن لدولة فلسطين سفارةٌ في الخرطوم، فيصير من المخزي أن يرتضيا الاستخفاف السوداني الفادح، والمعلن، بهما، إلى هذا الحدّ الذي كشفت شيئا من عناوينه "رويترز" مشكورة.