في المحكمة الشرعية

18 ابريل 2022

(فائق حسن)

+ الخط -

حين تقودك المهنة إلى أروقة المحاكم الشرعية ترى العجب العُجاب. ينتابك الغيظ عند رؤية أم عشرينية مقهورة لم تكمل تعليمها الجامعي، وليس لديها أي فرصة للعمل وتحقيق ذاتها، طلقها زوجها تعسفياً، لأنّه وقع في غرام امرأة أخرى ينوي الاقتران بها، وقد أحضرت صغيريها المذعورين إلى المحكمة مع أمتعتهما، لأنّ العائلة أكرهتها على إعادتهما إلى أبيهما، فالعائلة ترغب بتزويجها مجدداً (البنت لسّه صبية واحنا مش مجبورين نصرف على أولاد الغريب، أبوهم أولى فيهم!). يتملكك إحساس بالغضب، عند سماعك حكايات مؤلمة عن قضايا طلاق ونفقة وحضانة وإثبات نسب، ضحاياها، في الأغلب الأعم، أطفال أبرياء لا حول لهم ولا قوة، وقد ابتلاهم الله بآباء فاقدين أبسط مشاعرالأبوة من حب وحنان ورعاية وحماية، تلك المتوفرة غريزياً لدى ذكور الحيوانات الضارية.
يكفي أن تراقب في الأفلام الوثائقية سلوك تلك المخلوقات التي نعتبرها في مرتبة أدنى، وهي تستشرس في الدفاع عن صغارها من المخاطر، إلى درجة التضحية بنفسها من دون أدنى تردّد، في سبيل حمايتها وتأمين قوتها، لتدرك أنّ تلك المخلوقات بلغت درجة أخلاقية أعلى وأسمى من بعض نماذج البشر المؤسفة من الذكور الذين يتنصّلون من مسؤولياتهم تجاه أبنائهم غير عابئين بالآثار النفسية الخطيرة المترتبة على الطفل الضحية الذين يعاني كثيراً، فيشعر بالغضب والإحباط وقلة الثقة بالنفس، والظلم والحزن والمرارة، من دون أن يستطيع التعبير عن هذه المشاعر الملتبسة، لصغر سنه وحيرته وعدم إدراكه سبب تخلّي والده عنه. ولا يملك إلا أن يعقد المقارنة مع رفاقه ممن حباهم الله بآباء متفانين عطوفين رحيمين، يبذلون أرواحهم في سبيل تأمين طفولةٍ مكتفيةٍ سعيدة لأبنائهم. يتفاقم شعورُه بالغضب والخيبة، بحيث يحسُد أيتام الأب، ويجد أنهم أفضل حالا منه، فالأب في هذه الحالة لم يغادرهم مختارا، بل يشهدون مراسيم جنازته يوارونه التراب، يبكونه ويتذكّرونه بكلّ الحب والحنين. وتبقى صورته ماثلةً في أذهانهم نموذجا للحب والحنان، في حين تتشوه صورة الأب المتخلّي لدى الطفل، لأنّه يعرف أن والده استغنى عنه بكل بساطة، هربا من مسؤولياتٍ مفروضة عليه شرعاً وقانوناً. ولأنّ الطفل بطبعه حسّاس وذكي، لن يغفر جريمة التخلّي النكراء التي ارتكبها أقرب الناس في حقّه، سيظل الجرح كامناً في روحه الصغيره المخدوشة في أمانها واستقرارها النفسي. 
تروي سيدة مطلّقة، وهي امرأة عاملة، حكايتها، فتقول: "لم أتمكّن من مواصلة الحياة مع طليقي، لتفاقم الخلافات في ما بيننا، واستحالة استمرار الزواج الذي بات يؤثر سلباً على الوضع النفسي للأطفال. حصلت على الطلاق مقابل التنازل عن حقوقي المادّية من مؤخّر ونفقة. لكنّي لم أتنازل عن نفقة الأولاد، لأنّ ذلك حقهم على أبيهم، وحصلت على حكم من المحكمة بمبلغ رمزي، لا يلبي الحد الأدنى من حاجات الأولاد من مسكن وملبس وتعليم وتأمين صحي ومستوى معيشة يماثل أقرانهم. ورغم ضآلة المبلغ المحكوم به، لم يسدد طليقي التزاماته، ولم ينفذ قرار المحكمة، وكفّ عن مشاهدة الأولاد إمعاناً في التهرّب. كرّست نفسي من أجل تعويضهم عن يتمهم المباغت غير المعلن، وأصبحت لهم أماً وأباً في الوقت نفسه".
لشديد الأسف، حكاية هذه السيدة مألوفة، وتتكرّر يومياً في المحاكم الشرعية. نرفع القبعة احتراماً وإجلالاً لكلّ النساء الشجاعات الصابرات المضحّيات، المتصدّيات بكلّ قوة وإرادة وتصميم، وقد تولّين بكلّ جدارة مسؤولياتٍ مزدوجة في سبيل سعادة أبنائهن. وتحية إلى الآباء الرجال الحقيقيين الذين يحمون صغارهم برمش العين، يوفرون لهم حاجاتهم، ويسهرون على راحتهم، ويتابعون تحصيلهم العلمي، ويشرفون على أدقّ تفاصيل حياتهم، فأولئك فقط من يستحقّون شرف لقب الأبوة حصراً!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.