في التداعيات السورية لاعتداء إسطنبول
مرّة أخرى، تطرح تركيا خيار القيام بعملية عسكرية جديدة ضد وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سورية، ردّاً على الاعتداء المسلّح الذي تعرّضت له مدينة إسطنبول نهاية الأسبوع الماضي، وحمّلت أنقرة التنظيم الكردي المسؤولية عنه. توعّد المسؤولون الأتراك بملاحقة أهداف في سورية بعد اكتمال العمليات العسكرية التي يشنها الجيش التركي ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. على الرغم من أن الاعتداء لم يكن الأول الذي تشنّه الوحدات الكردية على الأراضي التركية، لكنّه يُظهر مرّة أخرى أن أنقرة على حقّ عندما تنتقد بشدة الدعم الأميركي للوحدات، وعندما اشترطت على فنلندا والسويد اتخاذ إجراءات صارمة ضد الإرهاب مقابل السماح لهما بالانضمام إلى حلف الناتو. على مدى سنوات، لعبت تركيا دوراً حيوياً في حملة التحالف الدولي ضد "داعش" في سورية والعراق، وقدّمت إسهامات كبيرة في الحرب على الإرهاب. لكنّها مع ذلك، تُكافح من دون جدوى لحث الولايات المتحدة ودول غربية أخرى على وقف دعمها العسكري والسياسي الوحدات الكردية. كان وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، على حقّ أيضاً عندما رفض تعزية السفارة الأميركية في أنقرة بضحايا اعتداء إسطنبول، لأن قدرة الوحدات على تهديد أمن تركيا تزايدت بفعل الدعم والحماية الأميركية لها.
العلاقة الأميركية مع الوحدات أصبحت في الواقع عبئاً متزايداً على العلاقات التركية الأميركية وعلى المصالح الأميركية بعيدة المدى في سورية
مع أن المسؤولين الأميركيين يعملون باستمرار على تكذيب هذه الحقيقة، لكنّهم في الواقع يعجزون عن تقديم مُبرّر مقنع لنظرائهم الأتراك لمواصلة الدعم العسكري والحماية السياسية لتنظيمٍ لا يخفى ارتباطه العضوي بحزب العمال الكردستاني. في السنوات الماضية، استطاعت واشنطن المناورة في مواجهة الضغوط التركية عليها، للتدقيق في علاقتها بالوحدات الكردية، لكنّ التكلفة على العلاقات بين البلدين كانت باهظة للغاية. لم يؤدّ هذا الدعم إلى تدهور هذه العلاقات فحسب، بل دفع أنقرة إلى تبنّي سياسات خارجية قائمة، في جانب منها، على التشكيك بالنوايا الأميركية تجاهها، وعلى اعتبار العلاقة بين واشنطن وتنظيم الوحدات تهديداً لأمنها. لم يأخذ الأميركيون، والغربيون عموماً، مخاطر سياساتهم تجاه تركيا في مسائل الأمن والإرهاب على محمل الجدّ، لكنّهم بدوا، أخيرا، أكثر إدراكاً لهذه المخاطر ويحاولون تبديدها بشكل جزئي. وعدت فنلندا والسويد تركيا بمعالجة مطالبها بخصوص الوحدات الكردية والتنظيمات الأخرى التي تُصنّفها أنقرة إرهابية، فيما تعهدت إدارة الرئيس جو بايدن بتسهيل عملية بيع تركيا مقاتلات إف 16 وسيلة لتهدئة التوترات معها وإبعادها عن روسيا، لكنّها لا تزال مُتردّدة في اتخاذ خطوات جريئة لمعالجة مخاوف الأتراك من العلاقة الأميركية مع الوحدات. السبب أن السياسة الأميركية بخصوص الوحدات الكردية تُشكّلها مجموعة من العوامل المزعجة للعلاقات التركية الأميركية، في مقدّمتها التعاطف الذي يُظهره المسؤولون الأميركيون مع الوحدات، ونظرة واشنطن إلى العلاقة معها أنها الورقة المتبقية لها لممارسة تأثير في سورية. يبدو العامل الثاني واقعياً بعض الشيء، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة فقدت الكثير من تأثيرها على مسار الصراع السوري في السنوات الأخيرة، وتحتفظ ببضع مئات من الجنود في شمال شرق البلاد لمواجهة خطر عودة "داعش" فضلا عن السيطرة على حقول النفط في المنطقة ومنع النظام السوري وحلفائه من الوصول إليها. لكنّ العلاقة الأميركية مع الوحدات أصبحت في الواقع عبئاً متزايداً على العلاقات التركية الأميركية وعلى المصالح الأميركية بعيدة المدى في سورية. تُظهر الشراكة التركية الروسية في سورية ومساعي أنقرة إلى التعاون مع دمشق ضد الوحدات الكردية أن النفوذ الأميركي المرهون بالعامل الكردي يفقد قيمته الاستراتيجية. كما أصبحت مُعضلة الوحدات عقبة رئيسية في طريق إعادة ترميم العلاقات التركية الأميركية. علاوة على ذلك، تعمل هذه المسألة على تعزيز الشراكة المتنامية بين أنقرة وموسكو في سورية وقضايا أخرى كجنوب القوقاز وليبيا والوضع في البحر الأسود على حساب علاقة أنقرة بالغرب.
اعتداء إسطنبول فرصة لواشنطن لتغيير مقاربتها الكردية، إذا كانت راغبة في الحدّ من تعميق تركيا الشراكة مع روسيا وإيران ونظام الأسد
برز هذا التحول التركي جليا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، عندما رفضت أنقرة الانخراط في الجهود الغربية لعزل روسيا ومنحت الأولوية لموقفها المحايد وشراكتها الجيوسياسية الواسعة مع موسكو. على عكس الغرب الذي فشل في التعامل مع الهواجس التركية تجاه الوحدات الكردية، نجحت روسيا في التعامل معها بشكل أفضل، فهي لم تُبد معارضة فعلية للتدخل العسكري التركي في سورية منذ عام 2016، كما اتفق قادة تركيا وروسيا وإيران في قمّة طهران في يوليو/ تموز الماضي على التعاون الثلاثي في مكافحة الإرهاب في سورية ومواجهة المشروع الانفصالي الكردي. مهّدت هذه التحولات إلى تغيير في الموقف السياسي التركي تجاه دمشق، على الرغم من أنّها لم تفلح في إزالة الاعتراضات الروسية والإيرانية لرغبة تركيا في شن عملية جديدة ضد الوحدات الكردية.
يُشكل اعتداء إسطنبول فرصة لواشنطن للشروع في تغيير مقاربتها مسألة الوحدات، إذا ما كانت راغبة في الحدّ من انجراف تركيا نحو تعميق الشراكة مع روسيا وإيران ونظام الأسد في سورية. سيتطلب الأمر، بالدرجة الأولى، توفر الإرادة السياسية في واشنطن للتفكير جدّيا في إزالة هذه العقبة، والتطلع إلى منافع ذلك، بدلاً من استمرار الرهان على سياساتٍ لا تؤدّي سوى إلى مزيد من إفساد العلاقة مع أنقرة. كما سيتعيّن على إدارة بايدن مقاربة العلاقة مع الوحدات الكردية من منظور الحاجة إلى إيجاد حوافز أمام تركيا للتراجع عن الانفتاح على الأسد، لأنّ من شأن ذلك إضعاف المصالح الأميركية والغربية الأساسية في سورية على المدى البعيد.
تعمل مساعي روسيا على تعميق الانخراط التركي في مشروعها لإنهاء الصراع السوري على إضعاف التأثير الغربي على نحو متزايد في تقرير مستقبل سورية بعد هذه الحرب. في ضوء أن أنقرة تجد الآن خيارات أخرى لتصعيد مواجهتها المشروع الانفصالي الكردي في سورية تُقلل من تأثير خلافها مع واشنطن بشأن المسألة الكردية، فإن ذلك يمنح تركيا هامشا أكبر للتحرّك بمعزل عن الموقف الأميركي. استمرار العلاقة بين واشنطن والوحدات الكردية لا يُمكن أن يُعوض بأي حال الفراغ الكبير الذي يتركه استمرار الخلاف في قضية الوحدات الكردية على مصالح واشنطن بعيدة المدى في سورية، والتي تتمثل في الحاجة إلى منح أنقرة حوافز للحفاظ على انسجام دورها السوري مع السياسات الغربية الهادفة إلى استمرار الضغط على الأسد لتحقيق انتقال سياسي. مع الأخذ بالاعتبار التأثير الكبير للهاجس الأمني من الوحدات الكردية وحاجة أنقرة إلى تأمين بيئة مناسبة لإعادة اللاجئين السوريين لديها إلى بلدهم على السياسة التركية في سورية، فإن هذا التأثير سيبقى طاغياً في تشكيل الموقف التركي في سورية في حال لم تُقدّم واشنطن والغرب خيارات بديلة لأنقرة يُمكنها أن تتفوّق في فعاليتها على الفوائد التي تتطلع تركيا إلى جنيها من وراء انعطافتها السورية تجاه دمشق.