في البحث عن الكينونة

04 يونيو 2022

(جبر علوان)

+ الخط -

كانت صديقة أربعينية تشكو لي دائماً أنها غير راضية عن ذاتها، فهي كما تشعر، لم تستطع، حتى الآن، أن تجد مكاناً لها في الحياة، لم تستطع أن تتميز في مجالٍ ما يمكن من خلاله أن تشعر بشخصيتها محققة، رغم أن صديقتي تلك أم لثلاثة أبناء في أحسن حال، وزوجة تتشارك مع زوجها الصداقة والحب، مثل مشاركتهما الزواج، وصديقة استثنائية في العطاء والمبادرة والدعم، وهي تملك طاقة مذهلة من الفرح وخفّة الظل والذكاء وطيبة القلب والكرم، ذلك كله يضمّه جسد هيكل شكلاني جميل، وضع اقتصادي لا بأس به، أي أنها تملك الكثير مما يجعلها متميّزة، لكنها لا ترى كل ما سبق، هي فقط تراقب منحى تعتقد أنه غير موجود في حياتها، وتتحسّر في كل سنة تمرّ من عمرها أنها لم تستطع أن تجد ما يميّز شخصيتها.

تعرّف الكينونة في اللغة بوصفها الوجود وإدراك هذا الوجود. واختلف الفلاسفة، منذ اليونانيين القدماء، حتى فلاسفة العصر الحديث بشأن الكينونة، فمثلاً يراها الفيلسوف الفرنسي العقلاني، ديكارت، التفكير والذات، مناقضاً فلاسفة اليونان الذين يرون فيها العالم الخارجي. أما هايدغر (فيلسوف القلق الألماني) فينظر إلى الكينونة بوصفها "حلول العالم في الذات". ولكن بعيداً عن الآراء التي ربطت الكينونة بالخارج، أو بالذات أو بالعقل أو بالشك أو بحلولية الوجود أو بالعدم أو غيره، نبحث، نحن البشر العاديين، عن كينونتنا، كي نشعر بأننا قادرون على الاندماج في المجتمع وفي الحياة، وقادرون على تحقيق التوقعات المجتمعية الإيجابية حولنا، ذلك أنه في مجتمعاتنا نتربّى على أن نكون في المقدّمة في كل شيء، في الأخلاق والتهذيب والعلم والثقافة والمال والسلطة وكل شيء تقريباً، هذه التربية تراكم مجموعةً من التوقعات الاجتماعية تجاه الأفراد، وتراكم داخل الفرد مجموعة من الأهداف والتحدّيات، سوف يسعى، طوال حياته، لتحقيقها كي يحظى بالمكانة المجتمعية التي تلبّي التوقعات حوله.

خلال هذا السعي المتواصل، سوف يفقد الفرد الرضا عن ذاته، إذ مهما كان ناجحاً أو متميّزاً في حياته، هناك دائماً سقف أعلى للتوقع، وهناك دائماً منافس أو منافسون أشدّ ضراوة، وهناك ثقافة ومنظومة مجتمعية محبطة وغير داعمة.

قابلت أمس سيدة أعرفها، أخبرتني أنها لم تنم منذ يومين، لأن نتيجة ابنتها الدراسية كانت أقل من المتوقع. سألتها عن هذا الأقل، فأجابتني أن ابنتها فشلت في تحقيق العلامة التامة بعشر علامات. الغضب الذي تشعر به هذه السيدة ليس بسبب العلامات العشر المفقودة، بل لأن ابنتها فشلت في تحقيق سقف التوقعات المجتمعية، ما يعني أن السيدة فشلت في التباهي بتفوّق ابنتها، وفشلت في إبراز كينونة متميزة واستثنائية تلفت النظر والإعجاب والاستحسان.

وسط تراكم التوقّعات، يمكنني تفهم حالة التشكّي لدى صديقتي الأربعينية التي تبحث عن ذاتٍ لها خارج الأمومة والزواج والجمال والصداقة والوظيفة، تبحث عما يميز كينونتها ويجعلها فريدة واستثنائية، نبحث جميعنا عن هذا الاستثناء بشكل ما، عن التميّز والخصوصية والفرادة، عن كل ما يلبّي توقعات المحيط الذي نعيش فيه حولنا، من دون أن نقف قليلاً لنسأل عن شكل كينونتنا وماهيتها، من دون أن نسأل إن كنا سعداء بما نحن عليه، أو إن كان التميّز الذي نسعى إليه سوف يحقق لنا السعادة. لكن مهلاً، هل نبحث عن سعادتنا حقاً، وهل نسعى إلى التميز من أجل السعادة؟ يخيل إليّ أحياناً أن سيرورة حيواتنا مضادّة تماماً للسعادة، ليس لأن الحياة محكومة بالفقد، (الفقد ضرورة لاكتشاف ضدّه)، بل لأننا نقضي، بعد ولادتنا، وقتاً طويلاً جداً من حياتنا القصيرة أصلاً، ونحن نسعى إلى العيش فقط، ندرس ونتعلّم كي نمتهن مهنةً بدخل ما يمكننا من العيش، من دون أن نكتفي بذلك، بل نتعلّم هواية ما كي لا يقال إننا عديمو الموهبة، لنكتشف فجأة أننا كبرنا، وأن ما تبقى من حياتنا أقل مما مضى، ونكتشف أيضاً أن كل شيء عبث، كل إنجازاتنا أفعالنا وإيماناتنا واندماجنا مع الحياة هو عبث، فلا العمل ولا التميّز ولا التعبّد ولا التناسل ولا التملك حقق لنا غاية وجودنا المتمثلة في السعادة .. كل ما سبق هو مجموعة من القيود التي تراكم دواخلنا الرغبة في المزيد من دون أن نترك لذواتنا حرية الخفة. نعيش في عالمٍ يمعن في فرض القيود المادية علينا، ونعيش في ذوات تراكم قيوداً نفسية دواخلنا، فهل الكينونة البشرية هي القيد؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.