في اغتيال رفعت العرعير
أكثر من 40 شاعرا وفنّانا وروائيا ورسّاما ومسرحيّا فلسطينيّا، مبدعين ومبدعاتٍ، ومعهم أكاديميون وأساتذة جامعيون، (عدا عن الإعلاميين والصحافيين)، من أبناء قطاع غزّة، قتلتهم آلة العدوان الإسرائيلية في المذبحة الراهنة، وقد قضى كثيرون (وكثيراتٌ) منهم مع أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم وأشقّائهم وشقيقاتهم. ويغشى الواحدَ منّا شعورٌ بحَرجٍ غزيرٍ من عدم درايته بعديدين منهم، بلوْحاتهم وقصصهم ونصوصهم وأشعارهم ومؤلفّاتهم وترجماتهم وموسيقاهم ومسرحياتهم. وفي كثيرٍ من هذا كله ما استحقّ إضاءاتٍ عليه ومتابعاتٍ عنه، غير أن بلادة الصحافة الثقافية العربية، وضعف البنيات الإعلامية الفلسطينية، والاستخفاف العربي العتيد بموقع الثقافة (والآداب والفنون) في الحياة العامة، كلها (وغيرُها) من أسباب جهلنا بهم، أو ضآلة معرفتنا بمنتوجاتهم. وهذا استشهاد الشاعر والأستاذ الجامعي والكاتب رفعت العرعير (مواليد 1979)، الأسبوع الماضي، يعرّفنا بما صنَع هذا الرجل وأنجز وأعطى، وبما عانى منه وما غالبَه من ظروف، وما تعرّض له من قهرٍ من الأجهزة السيادية المصرية إياها، وبالدور البديع الذي أدّاه، من موقعِه مثقّفا فلسطينيا يتوطّن فيه حسٌّ رفيعٌ بالمسؤولية العالية. وقد قضى، رحمَه الله، مع شقيقه وابنه وشقيقته وأبنائها، في شقّةٍ في حي الدرج في مدينة غزّة، لجأ إليها وأفرادُ عائلته، بعد تهديدٍ صريح وصل إليه بأنه قيد التصفية والاغتيال، فغادر مدرسةًً كان قد أوى إليها، حمايةً لساكنيها اللاجئين المُحتمين بها، غير أنه أمكن للعدوّ أن يستهدفه في شقّة أخته، الشقّة التي استُهدفت وحدَها في بنايةٍ فيها. وذلك كله بعد استهداف قوات العدو في 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بنايةً كان يقيم في شقّة فيها، فنزح إلى مستشفىً قبل المدرسة.
رحمه الله، أستاذ الأدب الإنكليزي الدكتور رفعت العرعير، الشاعر والناشط والمعلم والأديب. تقصّد الاحتلال قتله، لأنه كفاءة إعلاميةٌ وثقافيةٌ عالية الجدارة، في مقالاته بالإنكليزية في صحف عالمية (نيويورك تايمز مثلا) ودوريات ومنصّات إلكترونية أجنبية، عن جرائم إسرائيل ووحشيّتها، وحصارها قطاع غزّة، وهو الذي استُشهد أخٌ له في عدوانٍ في 2014. حاز الدكتوراة في الأدب الإنكليزي من جامعةٍ في ماليزيا، بعد الماجستير من جامعةٍ في لندن، في ظروفٍ شخصية صعبة، بالنظر إلى أنه من القطاع، فقد كابد كثيرا من سلوك الأجهزة المصرية معه (كما غيرُه)، في استنطاقه في مطار القاهرة، وفي مكابداته للعبور إلى قطاع غزّة من معبر رفح، وللخروج منه. وأجزم أن كل ما قاله الزميل بلال فضل في فيديو في هذا الخصوص، قبل أيام، عن "القائمة السوداء" التي وَضعوا فيها اسم الرجل صحيح، ليمنعوه من الدخول إلى وطنه والالتحاق بأسرته، قبل أن يدفع مبلغا من الدولارات لإزالة اسمه، "مؤقتا"، ثم يتجدّد منعه من المرور للسفر من القطاع إلى مهرجان أدبي في أوروبا، أياما فقط قبل 7 أكتوبر، ما يُجيز القول إن السلطات المصرية، بسلوكها السيئ مع الرجل المحترم والنبيل، ساهمت في حبسه، وفي الإضرار نفسيا ومعنويا به، ما جعله عرضةً للاستهداف الإسرائيلي المكشوف، ثم القتل الغادر، وذلك كله لا لشيءٍ إلا لأن الرجل يعمل أستاذا في جامعة في غزّة اسمُها "الجامعة الإسلامية"، وهو ذوّاقة الأدب، يدرّس طلابه مسرح شكسبير ويكتب القصائد بالإنكليزية، ويدون مروياتٍ عن الناس في غزّة، ويجمع نصوصا حارّة منهم وعنهم، ضمّها في كتاب بالإنكليزية حمل عنوان "نور في غزّة ... كتابات ولدت من نار" (2022). وهناك في مهرجان للأدب الفلسطيني في لندن، يقرأ قصيدةً له بالإنكليزية الفنان الاسكتلندي فيراين كوكس.
شكرا لموقع "حبر" الذي نشر ترجمة طيّبة (أنجزتها تقوى مساعدة) لنصوصٍ من يوميات رفعت العرعير التي تفيض حرارةً عن تجربته الشخصية ومشاهداته جنود الاحتلال ورصاصَهم في قطاع غزّة، وعن الطفولة والصبا الأول وما بعدهما، وعن شكسبير وأفلام سينما والدراسة والتدريس. والدعوة هنا إلى أن تُبادر دارُ نشر عربية إلى نشر كتب رفعت العرعير السابقة، "غزّة تعود إلى الكتابة" و"غزّة تخرج عن صمتها"، ودراساته ومقالاته ... لأننا نحتاج أن نقرأ هذا الكاتب المُحارب، الشهيد، الشاعر الرهيف، ونتعرّف إليه أكثر وأكثر، فقد قتلوه، لأنه صاحب شمائل نادرة في زمن حصار الجار وتواطئه، وفي زمن الخذلان العربي المشهود.