في إطلالة انتصار السيسي التلفزيونية
لم يعد لقب السيدة الأولى في مصر خاصًا بأعلى سلم نسوة الشهرة والحكم، أو حتى تنازع اثنتين منهن، كالراحلة أم كلثوم وجيهان رؤوف (جيهان السادات) حتى رحيل إحداهما؛ بل صار دالًا على رغبة امرأةٍ في أن تبقى في الحكم حتى بعد انقضاء أجل زوجها، إذ "تطمح" في أن يتولاه من بعده أحد أبنائها؛ وهي العادة المتأزّمة التي افتتحتها في تعديلها السيدة سوزان ثابت (سوزان مبارك)، والتي نجت مصر منها بأعجوبة ثورة 25 يناير، وهو ما لم تقتنع به؛ أو بحكم الأقدار المفاجئ المبهر، السيدة انتصار أحمد عامر أمين، المعروفة بانتصار السيسي؛ فبدأت هذه خطوات مسلسل سوزان نفسه، مساء الخميس الأخير من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، من دون مناسبة أو داع سوى رغبتها في إعلان بداية سيطرتها على حكم مصر مدى حياتها، زوجة للحاكم تارة وأمّا لابنه أخرى. وفي هذا السياق، ربما كان مخططًا لهذه المرأة أن تطل على المصريين، وسط انشغال شديد من كثيرين منهم بمباراة كرة قدم، بعد اللقاء بليلةٍ واحدة؛ فهلّت على الجميع في برنامج مطوّل على إحدى القنوات الخاصة، المقرّب صاحبها من النظام، سيدة مصر الأولى.
تبقى سيدتان عزفتا عن اللقب، الراحلة تحية كاظم ونجلاء علي محمود زوجة الرئيس الشهيد محمد مرسي.
نجت مصر من سوزان مبارك بأعجوبة ثورة 25 يناير، وهو ما لم تقتنع به انتصار أحمد عامر أمين، المعروفة بانتصار السيسي؛ فبدأت خطوات مسلسل سوزان نفسه
أما الأولى فالوحيدة بين زوجات ثلاثة من العسكريين الذين تمكّنوا من حكم مصر، ولم تكن تحرص، في الأغلب الأعم، على أن تطل على المصريين عبر وسائل الإعلام، ولا حتى عبر شاشة التلفزيون الذي افتتحه زوجها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1960، ولميول الأخير النابعة من أصول صعيدية/ تنتمي لقرية بني مر التابعة لمحافظة أسيوط (375 كيلومترًا جنوب القاهرة)؛ فلم تسع زوجته، صاحبة الأصول الإيرانية، إلى أن تكون ملكة مصر، أو سيدتها الأولى بلغة العسكريين التي أبقت الحياة الملكية، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، واكتفت بتغيير الأسماء. وبذلك بقي لقب الملكة الراحلة ناريمان، زوجة الملك فاروق، فارغًا حتى احتلته أم كلثوم. وبعد وفاة عبد الناصر عادت "ريما إلى عادتها القديمة"، كما يقول مثل شائع، فما إن لمحت جيهان استقرار الحكم لزوجها السادات، حتى طمعت في اللقب، وهو العرف نفسه الذي بدأت انتصار السيسي تسعى الآن إليه بـ"نعومة" شديدة؛ إذ تستشعر إتمام زوجها بسط يده "الطويلة العنيفة" على عموم مصر، فقرّرتْ أن تزيد من خنق الشعب أكثر بتعمد إطلالتها عليه في حوار مطول ممل مع الممثلة إسعاد يونس، وإنْ حرصت الصحف التابعة للنظام على عدم التركيز على اسم البرنامج، "صاحبة السعادة"، لأنه يخصّ اسم مقدمته وإن طمعت ضيفتها هذه المرّة أن يخصها.
أما اللواء محمد نجيب، أول رئيس عسكري عرف طريقه إلى حكم مصر، فلم يلبث أن أزاحه عبد الناصر بعنف مرّة بعد الأخرى. وحكى مولعون بالتاريخ عن السيدة تحية عن شخصيتها، أنها لم تكن تحب التدخل في أمور الحكم، ولم يكن مسموحًا لها بذلك. ولذلك لما انعقد مجلس الأمة في بيت عبد الناصر ذات مرة بعد هزيمة 1967م كان الاستياء يبدو عليها، لما سيحدثه ذلك من فوضى في النظام المعتاد. وذكر غير واحد من متتبعي تلك الفترة أنها علمت بنبأ وفاة زوجها من القسم العربي بالإذاعة البريطانية، إذ كان يعد خبر وفاة زوجها سرًا قوميًا أعلى لا يجب عليها أن تعرفه أو تدركه إلا في الوقت المناسب!
هنأت أم كلثوم أنور السادات بالرئاسة بقولها: "مبروك يا أبو الأنوار"، فانتهزت جيهان الفرصة مبادرة : "إزاي تقولي له كده.. اسمه الرئيس"
وعلى النقيض تمامًا من تحية عبد الناصر، كانت جيهان السادات تحرص على التدخل في شؤون الحياة والدولة. ولمّا تأخر عليها لقب السيدة الأولى المفضل، أخذته غلابًا، حينما دعاها الراحل رئيس مجلس الأمة الأسبق، المهندس سيد مرعي (نسيب زوجها أيضا)، إلى حفل عشاء حضره الرئيس وأصدقاء منتقون بعناية؛ وحضرت أم كلثوم متأخرة، فحاولت تلطيف الأجواء مع السادات، فقالت مكررة التهنئة بالرئاسة: "مبروك يا أبو الأنوار"، فما كان من زوجته إلا أن انتهزت الفرصة فلم تفلتها مبادرة بالرد القاسي العنيف على أم كلثوم: "إزاي تقولي له كده.. اسمه الرئيس". ولأن المغنية المدللة من الحكام السابقين لم تعتد مثل هذا الأسلوب، ولم تكن تستطيع الرد كعادتها؛ حزنت بشدة، حتى بكت على المسرح وهي تغني للمرة الأولى بعد وفاة عبد الناصر عام 1972، نحو نصف الساعة، وهي تشدو المقطع الأخير من أغنية "ومرّت الأيام". وبالطبع لم تقتصر جيهان على الإهانة وحدها، إذ منعت مشروع دار "أم كلثوم الخيرية للفتيات المعوزات والأيتام". وبالغ بعضهم وقالوا إن كلمات جيهان تسببت في زيادة المرض على أم كلثوم، ثم التسبب برحيلها عام 1975، لترث (جيهان السادات) لقب حاكمة مصر المتوجة عرفًا وقانونًا، حتى سلبته منها رغمًا عنها سيدة أخرى.
زهدت نجلاء علي محمود، زوجة محمد مرسي، في لقب السيدة الأولى وفي السياسة برمتها
وعلى الرغم من أن تحذيرات أميركية شديدة للرئيس الراحل، حسني مبارك، في بداية حكمه، من أن أحد أهم أسباب الغضب الشعبي من سابقه كان ظهور زوجته المتكرّر، إلا أن سوزان لم تلبث أن اخترعت مشروعات، منها الثقافي كـ"مكتبة الأسرة"، لتسوق لنفسها صاحبة اللقب المتنازع، أبدًا، عليه بين منذ عرفت مصر حكم العسكريين المتمكّنين؛ وصمت الزوج عن أماني الزوجة واكتساحها عالم السياسة، وتعمدها اختيار وزراء بعينهم وإقالة آخرين، حتى وصل الأمر إلى محاولة فرض ابنها جمال بالقوة على المصريين، الأمر الذي كان من أسباب خسران زوجها الراحل، بثورة عليه، ما جعلها بلا لقب ولا نفوذ.
زهدت السيدة نجلاء علي محمود، زوجة الرئيس الشهيد محمد مرسي، في اللقب وفي السياسة برمتها؛ فلما شاءت الأقدار عودة العسكريين إلى الحكم، أدارت انتصار السيسي وجه المحن للمصريين، وكيف لا وهي التي تحلم باللقب، حتى قبل تولي زوجها الحكم؟ ويبقى أن الإطلالة التلفزيونية لهذه الزوجة الطموحة، أخيرا، سيتبعها سيناريو معروف للمصريين جيدًا من تسويقٍ لنفسها بأسلوب رخيص، ثم محاولة فرض ابنها محمود (أو أيًا كان من أبنائها) بعد وفاة زوجها؛ إن لم ينتبه مقاومو السيسي إلى أنفسهم وبلدهم، ويستيقظوا من سبات أغلبهم ونومهم وتفضيلهم مصالحهم الخاصة؛ فسيناريو سيدة مصر الأولى تطور إلى كابوس يمد من آماد إذلال المصريين.