في إشكاليات شخصية مقتدى الصدر

10 اغسطس 2022
+ الخط -

كومة إشكاليات تستدعي النظر في شخصية زعيم التيار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، بعضها مكشوف ومعلن، مذ دخل الميدان السياسي بعد الغزو الأميركي للبلاد، وبعضها الآخر كان مضمرا ومستترا إلى ما قبل "صولته" التي أطلقها أخيرا في مواجهة خصمه اللدود زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي وانسحاب نوابه من البرلمان، ثم جاءت أحاديث المالكي المسرّبة التي هاجمه فيها، ووجّه له جملة انتقادات طاولت شخصيّته ومسيرته السياسية، ولم تخلُ حتى من التهديد بتصفيته، حيث وجد الصدر عبرها الفرصة لإطلاق سلسلة مواقف تخطّت المالكي شخصا لتتجه إلى الشأن العام، وتتبلور في سلسلة خطوات مثيرة، ليس أقلها دخول أنصاره المنطقة الخضراء واقتحام البرلمان، وتمرّده على العملية السياسية الطائفية التي كان أحد أقطابها الرئيسيين إلى أشهر قليلة، وشروعه في عملية سياسية "إصلاحية"، على حد وصفه. وفي كل هذه التداعيات التي لا تزال في حالة سيولة لافتة، برز الصدر "زعيما" إشكاليا يشار إليه بالبنان إلى درجة أن خيّل لبعضهم أنه أضحى يدير اللعبة وحده من دون منافس، ومن دون اعتبار للخصوم ولا حتى للأصدقاء والمساندين، وتركّزت عيون الجميع على "تويتر" ترصد تغريداته، فيما هو ينام ملء جفونه عن شواردها، ويسهر القوم جرّاها ويختصمون!

يبلغ تضخّم الأنا عند مقتدى الصدر مداه، عندما يصنّف نفسه "حفيد الحسين" وسليل عائلة الصدر التي لها قدسية خاصة ومكانة متميزة

الملاحظ أن الصدر يقدّم نفسه زعيما "وطنيا"، لأن "الوطن أغلى من كل شيء، وهو في القلب وفي الضمير"، وهو "عراق الآباء والأجداد"، ويشرع في الفترة الأخيرة بمخاطبة الشعب "بكل طوائفه وأعراقه وأقلياته وانتماءاته وأديانه وعقائده وأفكاره وتوجّهاته مهما كانت". ويتهم خصومه بخيانة الوطن والتبعية لقوى أجنبية، لكنه يعود، في أكثر من خطاب وتغريدة، لاستدعاء "المذهب" وإعطائه مكانة متفرّدة متقدّمة على الوطن بمراحل، وبطريقةٍ تستشف منها نوعا من المغالاة والمبالغة.

يحاول أيضا تكريس نفسه زعيما "شعبويا" داعية إلى الإصلاح، ومناضلا من أجل الشعب وممثلا له ومعبرا عن تطلعاته، وهو القادر وحده على تحقيق أهدافه، لكنه أيضا منفصلٌ عنه لكونه يقف منفردا متفرّدا، "إن كنتم تريدون الإصلاح والتغيير فإنني بانتظاركم، وإن رضيتم بواقعكم مهما كانت صفاته ومساوئه فهذا أمرٌ راجع إليكم". وتحمل هذه العبارة نبرة تهديد بأنه قد "يزعل" عليهم، وقد يعتزل الناس مقيما في "الحنانة" بالنجف أو "مهاجرا" إلى إيران أو لبنان كما فعل مرّات، وعندها ربما يذهبون إلى مصير مجهول ما دام هو غير راض عنهم. يعود، في موضع آخر، طالبا رضاهم، "استغلوا وجودي لإنهاء الفساد .. لست طالبا لسلطة، ولا عندي مغنم شخصي .. ولكنني أطلب الإصلاح.. والثورة بدأت صدرية، وما الصدريون إلا جزء من الشعب والوطن".

يبلغ تضخّم الأنا عند مقتدى الصدر مداه، عندما يصنّف نفسه "حفيد الحسين" وسليل عائلة الصدر التي لها قدسية خاصة ومكانة متميزة، وهذه الميزة الاستثنائية تفرض على جمهوره واجب طاعته والالتزام بوصاياه من دون نقاش، إذ هو لا ينطق عن الهوى، ولا هدف له سوى خدمتهم وإصلاح أحوالهم.

لا يعد الصدر بزعامةٍ حقيقيةٍ يمكنها أن تقود البلاد، وتتحمّل عبء إحداث تغيير جذري في نظامها السياسي وآلياته

يبدو الصدر أيضا، وفي أكثر من موضع، نرجسيا حد النخاع، متعاليا على أنصاره، مراقبا لهم ومتابعا ما يفعلونه، وهو يستطيع، كما قال، بقصقوصة صغيرة، أن يحاسبهم إذا ما أخطأوا، ويطردهم من تياره إذا لم يعتذروا ويطلبوا العفو، بتغريدة واحدة يمكنه أن ينقلب على حاله ليتخذ موقفا مستجدّا من قضيةٍ سبق أن أعطى فيها رأيا مختلفا، وهو بذلك لا يعتبر نفسه متناقضا مع نفسه، لأنه يرى ما لا يراه الآخرون، وحده يعرف كيف يدير اللعبة.

ومع أن "التيار الصدري" ليس حزبا سياسيا له آلياته ونظامه وعلاقاته الداخلية بين قيادته والمنخرطين فيه، إلا أن الصدر يحرص دائما على وضع القواعد التي تحكُم تلك العلاقات، كأن يعين "وزيرا" له ينطق باسمه، ويشكّل مكاتب ولجانا لمهامّ معينة، ويقرّر العقوبات التي يفرضها على من يخرج على وصاياه، وهو، في كل هذه الإجراءات، لا يستشير أحدا من المقرّبين منه، وإنما يدعهم يُفاجأون بأوامره، كما يُفاجأ من هم خارج التيار. وفي تحالفه "سائرون" الذي شكله في الانتخابات السابقة مع الشيوعيين وأحزاب أخرى، كان يعطي لنفسه الحق في الإعلان عن مواقف معينة ومن دون استشارتهم، وهذا ما فعله أيضا مع شركائه في "تحالف إنقاذ وطن" في انتخابات أكتوبر الماضي، وجديد ذلك خطوة إلزام نوابه بالاستقالة من البرلمان من دون أن يتشاور معهم.

بالمختصر المفيد، كل هذه الإشكاليات لا تعدنا بزعامةٍ حقيقيةٍ يمكنها أن تقود البلاد، وتتحمّل عبء إحداث تغيير جذري في نظامها السياسي وآلياته، وتلك هي حكاية أخرى.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"