فيروس كورونا .. شخصية العام
من يا تُرى يستحق لقب "شخصية العام" أكثر من هذا الكائن الخرافي الممعن في التضاؤل والصغر، ولا يراه المرء ولا يسمع وقع خطاه، قبل أن يغرّز شوكاته في ثنايا الجسد ليوهنه، ويجعله لا يقوى على إدامة حياته، حتى إذا استقرّ في مكمنه فتك به، وأرداه طريحا من غير حركة ولا نأمة!
إنه فيروس كورونا، يسمّونه أيضا كوفيد 19، قاد حربا كونية على مدار العام، احتل فيها كل المدن والأمصار، وتفوّق فيها على كل ما أنتجته العقول الشرّيرة من أسلحة فتك ودمار، ومثّل تهديدا لحياة سبعة مليارات بشري، وهيمن على "الأخبار العاجلة" و"مانشيتات" الصحف. واستطاع، في عامنا الأسود الذي يغادرنا تحفّ به اللعنات، أن يطيح ثمانين مليونا، وما زال على قوته ووحشيته، حتى زاد من شوكاته، وتحوّر جينيا في أكثر من سلالةٍ جديدةٍ كي يمكنه الحركة والفتك بأسرع مما بدأ، كما وأصاب بالشلل مرافق ومنظومات وسياسات دول لم تضع في حسابها أنها قد تتعرّض لجائحة مثله. وقد أفاقنا على هشاشتنا وضعفنا بشرا، وعلى غطرستنا وغرورنا بما أنجزته الحضارات من علوم وفنون وآداب. وكان يرافقنا شعور زائف بالأمن والأمان. وقد دفعنا كوفيد إلى الشك في كل ما تعلّمناه في مدارسنا وجامعاتنا، وفي كل ما صنعناه على مدى قرون، وعرفنا أن الدنيا صغيرة، وأن أية دولةٍ مهما تنمرّت في عزلتها، وتصوّرت أنها في مكانةٍ تتيح لها أن تُخضع العالم لها سوف تصل إلى اكتشاف أنها كانت ضحية فخاخ كبيرة، وأن قناعاتها، وحتى استراتيجياتها، محض هراء، وعليها أن تعيد النظر في ما آمنت به وخططت له.
دفعنا كوفيد إلى الشك في كل ما تعلمناه في مدارسنا وجامعاتنا، وفي كل ما صنعناه على مدى قرون
قيل في منشأ هذه الجائحة التي لم تشهد مثلها البشرية من قبل الكثير، وتضاربت الآراء، وتعدّدت النظريات، وتخاصمت الأيديولوجيات بشأنها من دون أن يُفضي ذلك إلى نتيجة خالصة، رأى بعضنا فيها مكيدةً عالميةً، دبّرتها قوى شرّيرة بعدما عجزت الثروات العامة عن إطعام المليارات من سكان هذا الكوكب وإسكانهم، ولم يعد من حل سوى إفناء المسنّين منهم الذين لم تعد لديهم القوة، ولا القدرة، على فعل شيء. فيما قال آخرون إنها تمثل غضب الطبيعة على البشر الذين استهانوا بقدرتها، وخيّل إليهم أنهم أتقنوا ترويضها حتى هيمنوا عليها، فردّت الطبيعة على دعاواهم بما هو أكثر شرّا. وعزا فريق ثالث الأمر كله إلى صراع القوتين العظميين، الصين والولايات المتحدة، ودخولهما في منافسة حادّة على الفوز بالجائزة الكبرى في حقول الاقتصاد والتكنولوجيا وزعامة العالم. وكان أن تم تبادل الاتهامات بينهما في تحمّل مسؤولية تصنيع الفيروس، ثم في نشره. فيما رأى فريق آخر أن هذه الجائحة محض ناتج طفرة وبائية أفرزتها ظروف ومآلات، كما في أية طفرة وبائية أصابت البشرية من قبل، وعلى مؤسسات العلم والتكنولوجيا أن تُضاعف همّتها للوصول إلى ما يصدّ الغائلة ويعيد الأمل.
ودخل علماء الاقتصاد على الخط، لينذرونا أن الجائحة الماثلة قد تُفضي، أو هي أفضت، بالفعل، إلى إفقار متصاعد وتراجع في الثروة العامة، وفقدان للأعمال، وبطالة شائعة، وأن حظوظ ملايين من البشر سوف تنقسم بين الموت بالجائحة أو الموت جوعا!
ها نحن محبوسون في منازلنا، نراقب كل ما نفعله، نمتنع عن معانقة أحبائنا أو مصافحتهم، ونتباعد حتى ونحن داخل أسرنا
ومهما تكن التفاسير، فإننا، نحن البشريين البسطاء، لم نجد مناصا من أن نستسلم لهذا القدر الشرير، وأن نغيّر من سلوكياتنا وعاداتنا على وفق ما يريده، وها نحن محبوسون في منازلنا، نراقب كل ما نفعله، نمتنع عن معانقة أحبائنا أو مصافحتهم، ونتباعد حتى ونحن داخل أسرنا، ونشعر بالأسى عندما لا نتمكّن من توديع من نحب، حين يطيحهم الوباء ويُجبرهم على الرحيل. وفي محابسنا هذه، نتابع أخبار اللقاحات التي دخلت، هي الأخرى، في دوامة التفاسير والنظريات والصراعات، لكنها، في كل الأحوال، بدأت تشيع في أعماقنا الأمل، وتعزّز إيماننا بالحياة، وتحثّنا على التعلم من الوباء وعنه، وعلى زيادة خبراتنا في علوم الطب والصحة، وحتى في أمور يومية بسيطة كنا نمارسها بعفوية، ولا نصرف الوقت للدراية بها، وبمفاعيلها، كغسل أيدينا مرارا بالماء والصابون، وتعقيم أدواتنا، وتعريض أجسادنا للشمس، وتقوية مناعتنا، وتحصين صحتنا النفسية، عدنا أطفالا كما ولدنا.
بالمختصر المفيد، كان عامنا السالف "فوضويا"، عاما "خلاقا"، أخذ منا الكثير وأعطانا القليل، ذلك كله فعله فيروس كورونا. .. ألا يستحق بعد هذا الذي فعله بنا أن يكون شخصية العام بحق؟