فيروز ومدُنها
عُرف عن فيروز، التي تحتفل بعيد ميلادها الثامن والثمانين، أنها لم تغنّ لقادة أو حكام أو زعماء. غنّت للمدن. والمدينة التي تغنّي لها محظوظة، فصوت فيروز، وأداؤها، وألحان الراحليْن، زوجِها عاصي وشقيقه منصور، تجعل اسم المدينة المغنّاة يرسخ في ذاكرة الناس، ووجدانهم. هذا الأمر، كما يبدو للمتأمّل فيه، ذو وجهين، أولهما جميل وممتع، يُدخل السعادة إلى قلوب أبناء المدينة. وإذا كانت عاصمة، يشعر أبناء الدولة كلها بالسعادة، ويطمئنون إلى أنهم شعبٌ عظيم، كعاصمتهم.. وثانيهما يبعث على التساؤل: يا تُرى، هل المدينة المذكورة وشعبها عظيمان إلى هذه الدرجة! أم أن الغناء لها نوع من التمجيد، يشبه شعر الفخر والحماسة الذي برع فيه بعض شعراء العربية منذ الجاهلية، كعمرو بن كلثوم، وفي عصرنا الحديث سعيد عقل الذي رأى أن تاريخ البشرية كان، قبل أن توجد "الشام"، في ظلمة، وبعدما وُجدت استولى على الشهبِ؟
تختلف نوعية أغاني المدن باختلاف كاتب القصيدة التي تُغنّى لها، فما أبدعه الأخوان الرحباني يبدو بسيطاً، عاطفياً، إنسانياً، شفّافاً، مثالُه أغنية "شط اسكندرية"، التي تصف البحر، وجمال الطبيعة، وروعة العشاق، ولا تذهب إلى تمجيد المدينة، وتاريخها، وشعبها، وقد جاء فيها، مثلاً: ليالي مشيتَك يا شطّ الغرام، وإن أنا نسيتك ينساني المنام، والشاهد عليَّ، غنوة قمرية، والنسمة البحرية يا شط اسكندرية.. وعند بشارة الخوري، في قصيدة "يا ربا"، نعثر على صورةٍ غير مسبوقة، أن الشوق استبدّ بمدينة "الشام" فغادرت مكانها، ومشت إلى لبنان، والاستقبال كان بفرش الطرقات بالقلوب والثغور وصدّاح البلابل. وفي البيت الثاني، أظهر بشارة نَفَسَه القومي، العروبي، التمجيدي، فكتب: غُرَّةٌ من عبد شمس/ تملأ الليل صباحــا. ... وحســامٌ يعربيُّ الحـدّ/ ما مــلّ الكفـاحا.
يذهب بي الظن إلى أن الأخوين الرحباني كانا في غاية الخشوع عندما أطلقا على مدينة القدس اسم "زهرة المدائن"، وأوشكا على الصلاة لأجلها. ولم ينسيا، كعادتهما، أن يتحدّثا عن التآخي المسيحي الإسلامي، فكتبا: عيونُنا إليكِ ترحل كل يومْ/ تدور في أروقةِ المعابدْ/ تعانقُ الكنائس القديمة/ وتمسح الحزن عن المساجدْ.. والحقيقة أن قصيدة "غنّيتُ مكّة" لم تأت عفو الخاطر، فالفريق الرحباني، عاصي ومنصور وإلياس وفيروز وفيلمون وسعيد، كلهم مسيحيون، أما المخرج المسرحي، الفنان الفلسطيني صبري الشريف، الذي رافقهم في مشوارهم الفني، وأضاف إلى الأعمال المسرحية لمسات بالغة الجمال والروعة، فمسلم. وبحسب ما يروي سعيد عقل في إحدى مقابلاته المتلفزة، أن عاصي قال له: "شو يا سعيد، مو لازم نكرم صبري بشي قصيدة؟". فارتجل المطلع: غنّيتُ مكّةَ/ أهلَها الصيدا/ والعيد يملأ أضلعي عيدا.. ثم أكملها، وفيها خروجٌ عن المألوف واضح، فبدلاً من أن يستغرق في مديح مكّة والحجيج والمسلمين، راح يرسم صوراً شعرية متخمة بالبلاغة، والفلسفة، كقوله: ضجّ الحجيجُ هناكَ (في مكّة) فاشتبكي، بفمي هنا (في لبنان) يا وُرْقُ تغريدا.. وذهب، كذلك، إلى تمجيد الإنسانية كلها، بعيداً عن التمييز الذي صنعه البشر بأيديهم، فدعا الله قائلاً: وأعزَّ، رَبِّ، الناسَ كلَّهُمُ، بيضاً، فلا فَرَّقْتَ، أو سوداً.
وعلى سيرة البلاغة التي أنتجتها قريحة سعيد عقل الشعرية، خلال حياته الطويلة، يمكننا ملاحظة أنه كان يتفنّن بلاغياً، بشكل خاص، حينما يكتب للشام، وكأنه في حالة تحدٍّ مع قرّائه ومتابعيه، كاستخدامه فعل الأمر المنصوب في أول القصيدة: مُرَّ بي، وبعد لأي يستخدم مصدر بَدَد، بدلاً من تبديد، فيرى أن العمر يكون جميلاً حينما يذهب (بَدَدَا)، وفي قصيدة "نَسَمَتْ"، يلعب على وتر الفعل المنتهي بتاء التأنيث، ثم يأتي بالفاعل مذكّراً، كقوله: نسمتْ من صوب سورية الجنوبُ. وهو يقصد "رياحُ الجنوب". ولعل كبرى شطحاته ترد في قصيدة "سائليني يا شآم"، قوله: أمويونَ، فإن ضقتِ بهم، ألحقوا الدنيا ببستان هشام.