فوضى في السّاحل الإفريقي... الفواعل والقضايا
يعيش السّاحل الأفريقي أسوأ أيّامه، حيث تتفاعل فيه قضايا أمنيّة بإدراكات كلّها صراعات وأزمات، ما يُنذر بانفجاريات قادمة لا يعلم أحدٌ إلى أين ستؤدّي من حيث المدى. أمّا من حيث المضمون، فالكلّ يعلم أنّ المراد، من كلّ ما يجري، تردّي المنطقة إلى ما لا تُحمد عقباه، خصوصاً للفواعل التي منها من هو منخرطٌ لأنّه معنيٌّ ومهتم، بسبب الجوار الجغرافي والعمق الجيوسياسي، على غرار كلّ الدُّول في شمال أفريقيا، وبالأخص الجزائر، وبسبب المعطى الجيوسياسي، على غرار، من ناحية أخرى، قوى إقليمية وأخرى دولية قد تكون تركيا وروسيا من أهمّها، لأنّ الأولى منخرطة ببيع مسيّـرات وأسلحة، والأخرى (روسيا) لوجود فاغنر، مليشيا تأتمر بأوامر موسكو، وتُعدُّ ذراعها العسكري الأساسي.
انطلاقا من هذا الواقع، ما نريد الوصول إليه، من خلال المقالة، توضيح خريطة التّفاعلات والقضايا المطروحة، من ناحية، مع الإشارة إلى الفواعل، دول وأذرع/ أدوات، من مصلحتها أن تتعمّق الأزمة، وأولى القضايا التي عليها مدار كلّ تلك الصّراعات الحاجة إلى منطقة ملاذ أو لنقل إقليم شاسع بمحدّدات أمنية/ دفاعية، اقتصادية (طاقة ومعادن) وهندسة إثنية/ اجتماعية، يمكنها أن تشكل موطنا لتجربة الأسلحة، التّموقع للعب أدوار إقليمية وأخرى دولية بالقرب من القرن الأفريقي، وبامتدادات متوسّطية، شمالا أو أطلسية ـ غربا.
تشير القضيّة الأخرى إلى إرادة مشتركة لدى بعض الفواعل المنخرطة في تلك اللُّعبة الجيواستراتيجية في أن تُغيّب الدّولة في الساحل، وأن تحلّ محلّها فواعل أصغر من الدّولة يمكن التّلاعب بها وتوظيفها لأداء بعض الأدوار، وبخاصّة أنّ استقلال السّاحل كان على أساس تقاطعات إثنية وأخرى اجتماعية متناقضة مع المصالح الاقتصادية (مناطق ريع، أراض زراعية وتداخلات بين الحدود السّياسية والاجتماعية)، استطاعت فرنسا، المستعمر الأساسي للمنطقة، الحفاظ على مصالحها بعد منحها الاستقلال لدول المنطقة في إطار ما كان يُعرف بالسّياسة الفرنسية في أفريقيا والتّي كان يقودها قصر الإليزيه (الرئاسة الفرنسية)، والخارجية الفرنسية ورجال أعمال إضافة إلى جيش من المرتزقة.
يبدو أن ثمّة إرادة مشتركة لدى بعض الفواعل المنخرطة في الساحل الإفريقي لأن تُغيّب الدّولة، وأن تحلّ محلّها فواعل أصغر من الدّولة يمكن التّلاعب بها وتوظيفها لأداء بعض الأدوار
تستدعي القضية الثالثة، في هذا المقام، الإشارة إلى حالة عدم الاستقرار من خلال الحفاظ على مسلّمة الهشاشة، الضعف والفشل التي تعانيها الدولة والمجتمع، معا، في الساحل بقصد إدامة استراتيجية الحفاظ عليها منطقة ملاذ لكل التّجارب التي تدرك القوى الدُّولية والإقليمية أنها بحاجة إليها للحصول على طاقة ومعادن بأرخص الأسعار أو للعب أدوار ما تتطلبها التغيرات الجيوسياسية العالمية على خلفية التنافس الدولي والفوضى اللتين تقودان تفاعلات النظام الدولي، وتعملان على استجرار المصالح وتعظيمها بكل الأدوات وبكل الاستراتيجيات المتاحة.
يتطلب تحقيق ذلك الهدف، طبعا، الاستمرار في الحفاظ على إدراك عدم الاستقرار واحتمالات تمدُّدها لدى الدول التي يمكن وصفها بمفتاحية في المنطقة، خصوصاً في الشمال الأفريقي، وفي قلبها الجزائر، التي تمتلك حدودا شاسعة مع مالي والنّيجر، الدّولتين السّاحليتين المتوتّرتين على الدّوام، وهو إدراك تتولّد عنه الحاجة إلى التّسلُّح والتجنُّد المستمرّ لحماية الحدود بأعداد كبيرة من الجنود والعتاد على حساب عملية التّنمية التي تعطّلت بفعل هذا الوضع المستمرّ منذ عقود.
يستدعي استمرار التوتر دمى أخرى، جمع دمية، على غرار جماعات إرهابية وأخرى إجرامية لتهريـــــــب السـلاح والبشر، ما يوجد ظاهرتي الإرهاب والهجرة غير الشرعية بقصد تغذية الوضع السيئ وتحويله إلى سبب وجيه، دوليّا وإقليميا، لترديد مقولات وجوب التّدخُّل، حماية الأقليات، تقديم المساعدات الإنسانية، وصولا إلى عمليات عسكرية بحجم ما قامت به فرنسا (سرفال وبرخان)، أو روسيا من خلال مجموعات فاغنر، والولايات المتحدة من خلال قواعد عسكرية لتتبع رؤوس الجماعات الإرهابية (أفريكوم).
تخريب هياكل إقليمية كانت، إلى زمن قريب، آمالاً للشعوب في تجاوز الحدود الوطنية والتعلّق بأهداب حلم نجاح العامل الإقليمي، اقتصاديا، في معاجلة الأزمات الاقتصادية
بالنّسبة للفواعل المنخرطة في هذا الكمّ الهائل من القضايا التي تجرُّ إلى عدم الاستقرار وتمدُّده في السّاحل، ثمة إشارة إلى قوى دولية (الولايات المتحدة، روسيا، فرنسا، الصين)، وأخرى إقليمية (تركيا، بنسبة أقل إيران إضافة إلى دول أوروبية متوسّطة القوّة على غرار إسبانيا وإيطاليا)، من دون إغفال أدوار مشبوهة لدول تموّل تلك العمليات أو بعض الأذرع، خصوصاً غير الرسمية منها.
هناك، من ناحية أخرى، فواعل غير رسمية ممّا نطلق عليه، في العلاقات الدُّولية، الفواعل غير الدّولة (Non States Actors)، تلعب أدوارا وظيفية بتمويل من بعض الفواعل الرّسمية (الدّول)، وهي أدوار عسكرية/ استخباراتية واقتصادية لتكون لدينا، من خلال ما تقدّم، خريطة التفاعلات والفواعل المنخرطة فيها لتوليد ما باتت تُعرف بالقنبلة السّاحلية التي توشك على أن تنفجر، ولتكون امتدادات ذلك التّفجير فوضى كانت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس قد وصفتها بالخلّاقة. ولكن، هذه المرّة، ليس لتجربة سلاح، إيجاد منطقة ملاذ أو تنافس على سوق أسلحة، بل بقصد إيجاد فوضى عالمية نشاهد بعضاً من أحداثها تجري في غزّة، بعضها الآخر يجري في السودان، الحرب في أوكرانيا، وتستمر، حالياً، مع إشعال كل تلك البؤر في مناطق كثيرة: مصر وأزمتها الاقتصادية، أزمة سدّ النهضة الإثيوبي، أزمة التّضخُّم في العالم، أزمات وصراعات في مناطق كثيرة، احتمال الإعلان عن إفلاس دول (الأرجنتين، مثلا)، إلخ.
هناك نقطة هامة، يجب الإشارة إليها، تلك التي تشير إلى تخريب هياكل إقليمية كانت، إلى زمن قريب، آمالاً لشعوب في تجاوز الحدود الوطنية والتعلّق بأهداب حلم نجاح العامل الإقليمي، اقتصاديا، في معاجلة الأزمات الاقتصادية. ويتعلق الأمر، هنا، بسعي روسيا، مثلا، إلى تخريب منظمّة غرب أفريقيا الاقتصادية (إيكواس) بحثّ الدول التي استدعتها لتساعدها، أمنيا وعسكريا، لتثبيت انقلابات عسكرية، بعد إعلان بوركينافاسو والنيجر ومالي الانسحاب من تلك المنظّمة، وهي دول حبيسة كانت تعتدي، لتسيير تجارتها الخارجية، على دول من غرب أفريقيا، أساسا، ما ينمّ على تلك القرارات هي نتيجة انتشار الإملاءات الخارجية إعمالا لسياساتٍ آنية قد تجرّ على المنطقة، على المدى القصير، المزيد من القوى أو تنذر بوقوعها، قريبا، حتما.
ما نتمنّاه، فقط، أن تدرك الدُّول القريبة من برميل المتفجّرات، في شمال القارّة، أن الوضع لا يطمئن
تبقى الإشارة، أيضا، إلى تمدّد تلك الفوضى إلى بلد قريب، هو السنغال، كان، إلى وقت قريب، واحة للتحوّل الديمقراطي، ويتحوّل اليوم، بعد الإعلان عن تأخير موعد الرئاسيات، إلى موقع آخر للفوضى في المنطقة المحاذية للساحل، ما يعني أنّ المنطقة أضحت، برمّتها، تحت مرأى عدم الاستقرار وما لا نراه أعظم، ربما.
تشير الحالة التي توصيف جزء منها، فقط، تفاعلات وفواعل في منطقة الساحل، إلى احتمال إقبال المنطقة على فوضى كبيرة جدا في المستقبل المنظور، ما سيزيد من أعباء التّسلُّح وضبابية الموقف بفعل اشتراك فواعل غير رسمية وانخراط قوى دولية وإقليمية في تنافس محموم بدون استراتيجية وأهداف محدّدة، اللهمّ إلا تخريب المنطقة وجرّها إلى الفوضى الخلّاقة، وقد شاهدنا آثارها، بأمّ أعيننا، عند تطبيقها بعد الربيع العربي، وحملت، آنذاك، في منطقتنا العربية، مسمّى الثورة المضادّة.
هذا هو المشهد في السّاحل الأفريقي بخريطة تفاعلاته وفواعله المنخرطة فيه. ما نتمنّاه، فقط، أن تدرك الدُّول القريبة من برميل المتفجّرات، في شمال القارّة، أن الوضع لا يطمئن وأن المستقبلين، القريب والمنظور، أي الآن، يستدعيان تصفير الخلافات والمشكلات، داخليا وخارجيا، بقصد التفرّغ لمواجهة هذا الوضع الذي ترتسم معالمه، شيئا فشيئا، وأصبحنا نراه قريبا منا، بل هو قاب قوسين أو أدنى مما نظن.