فن الممكن في إدارة الأزمة بعد انقلاب السودان
طغى نبأ الانقلاب في السودان على ما عداه من أخبار في هذا البلد الذي شهد قبل أقل من ثلاثة أعوام ثورة شعبية، انحاز إليها الجيش فرجّح كفتها، فأصبح شريكاً في حكم الفترة الانتقالية التي تمهد لانتخاباتٍ يُنقل بعدها الحكم إلى حكومةٍ منتخبةٍ ليكتمل التحول الديمقراطي في السودان. شابت الشراكة مشكلاتٌ بسبب اختلاف طبيعة الشريكين في فهم إدارة الدولة، ولم يُبديا استعداداً لتقديم تنازلات ضرورية في أية شراكة؛ فالمعروف بداهة أن وجود طرفين أو أكثر في شراكةٍ يعني عدم فرض أيٍّ منهم رؤيته، والتقاء الأطراف في منطقة وسطى بعد إبداء المرونة والتنازلات المطلوبة .
سارت الأمور على ذلك المنوال، حتى أصبح انعدام الثقة سمة العلاقة بين العسكريين والمدنيين، وأصبح تبادل الاتهامات بينهما مألوفاً. وبما أن قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، هو رئيس مجلس السيادة الانتقالي، أصبح أي انتقادٍ من المدنيين له بمثابة هجوم على الجيش، حسب رأي ضباط القوات المسلحة، فصارت العلاقة أكثر حساسية، وأصبح البرهان مواجَهاً بضغوط قوية من رفاقه في الجيش، لإبداء مزيد من الحسم تجاه المدنيين الذين يسيئون للقوات المسلحة، حسب رأيهم. وتفاقم الأمر بافتقاد بعض قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير الحكمة، فأطلقوا ألسنتهم بالطريقة ذاتها التي يديرون بها خلافاتهم مع القوى السياسية الأخرى. وصدرت تصريحات من وزير في الحكومة، يهاجم فيها البرهان بالاسم، فتسمّمت الأجواء السياسية في البلاد. ولم يعمل المدنيون بنصائح الحادبين الذين حذّروا قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير من مغبّة استفزاز العسكريين الذين لا يُعرف مدى رد فعلهم، والذي قد يكون استخدام القوة التي يفرضون بها رؤيتهم، بغضّ النظر عن صحتها أو عدمها، ويفرضون واقعاً جديداً يمتلكون فيه زمام المبادرة، وقد كان.
تعتبر الأزمة الحالية في السودان من النماذج التي يصاغ عندها التعريف الشهير للسياسة بأنها "فن الممكن"
تعتبر الأزمة الحالية في السودان من النماذج التي يصاغ عندها التعريف الشهير للسياسة بأنها "فن الممكن". بدءاً بالوضع قبل الانقلاب، حين تجاهلت قوى الحرية والتغيير شريكها الآخر، هل كان من "الممكن" أن تفرض هذه القوى رؤيتها، وتستهين بالعسكريين دون أن يجلب عليها هذا السلوك خطراً يهدّد وجودها في الحكم؟ هذا من المستحيلات، لكن قوى الحرية والتغيير تغافلت عن هذه الحقيقة، وأصرّت على تنفيذ ما تراه صحيحاً، باعتبار أنّ المدنيين هم الأدرى بالشأن السياسي بحكم التخصّص، وأن العسكريين متغولون على الحياة السياسية. وإذا افترضنا صحة هذا الرأي، فهو غير ممكن التنفيذ. لذا، يصبح ضرباً من الخيال في عالم السياسة الذي يفترض أن يكون المدنيون أكثر دراية به.
وبمتابعة الممكنات والمستحيلات، نتساءل إن كان من الممكن أن يتراجع الجيش عن الانقلاب ويعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 25 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي موعد وقوع الانقلاب. وتأتي الإجابة باستحالة حدوث هذا الاحتمال المثالي، بعد أن أوجد الانقلاب واقعاً جديداً سعى إليه الجيش، فهل يمكن مواجهة قوة الجيش العسكرية بقوى مدنية قوامها الشباب الأعزل؟ هذا خيار كلفته عالية جداً، ولن يحقق غايته، لأن كل الثورات الشعبية السابقة نجحت بانحياز الجيش لها، ولن ينحاز الجيش لأي تحرّك يستهدف انقلاباً قاده قائده بضغط من رفقاء السلاح. لذا، يعتبر زجّ الشباب الأعزل في هذه المعركة غير المتكافئة تهوراً. ويبقى أن نتساءل عن إمكانية الحوار مع العسكريين، بعد أن فرضوا هذا الواقع الجديد.
التصرّف بواقعية الخيار العقلاني والعملي الممكن، يعزّزه ما أبدته قيادة الانقلاب من توجهاتٍ تجعل الاطمئنان على التحوّل الديمقراطي ممكناً
تُملي الواقعية الحوار بعد استبعاد احتمال تراجع الجيش من تلقاء نفسه، واستبعاد نجاح ثورة شعبية لا يسندها الجيش، بجانب الكلفة العالية لمواجهات المدنيين مع العسكريين. لكن الحوار قد يبدو غير ممكن، لأنه من المحرّمات عند السياسيين الذين يعتبرون الانقلاب مقدمةً لحكم استبدادي، يتعارض مع مبادئهم في الحرية والديمقراطية، فهل من ثغراتٍ تجعل الحوار مع قادة الانقلاب ممكناً؟ منح البرهان، في بيان الانقلاب، فرصة عظيمة للمدنيين الذين يركّزون على التحول الديمقراطي، بغضّ النظر عمّن ينفذه، فضمّن البيان توجهاتٍ ديمقراطية، مثل تشكيل مفوضية الانتخابات، وتحديد موعد لتنظيمها، متقدّم على الموعد الذي أعلن من قبل خلال حكم الشريكين، ليوحي الفريق عبد الفتاح البرهان، بذكاء، أنه يقدم الدليل العملي على حرصه على التحوّل الديمقراطي، وأنه أكثر جدّية في إجراء الانتخابات، وتحقيق التحوّل الديمقراطي من القوى المدنية التي كانت تزعم، خلال الفترة الانتقالية الماضية، حرصاً على الديمقراطية، وبذلك يصبح ممكناً إدارة حوار مع قيادة الانقلاب، لتعزيز فرص هذا التحوّل.
ويلزم قادة الانقلاب عمل إعلامي مكثف، يؤكّد أن تحرّك الجيش أخيراً لم يُقصد به تأسيس حكم عسكري، بل هو إعادة للشراكة (المؤقتة) مع حكومة مدنية جديدة، لا ينفي مدنيتها غياب الأشخاص الذين شكّلوا حكومة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك. ويزيل هذا التوضيح الضروري المخاوف من سياسيين تأثروا بحملاتٍ ضاريةٍ تصف التحرّك بالحكم العسكري، فيقدمون على الحوار مع العسكريين، وعلى المشاركة في إدارة الفترة الانتقالية الجديدة بلا خوفٍ من حملات التشكيك والتخوين. كما تعتبر الحملة الإعلامية ضروريةً لتصحيح فهم الشباب المتحمس لما حدث في 25 أكتوبر، فخرج غير هيّاب يرفض ما يعتبره حكماً عسكرياً، ويطالب بحكومة مدنية. لذلك، تصبح مسؤولية قيادة الانقلاب مضاعفةً لتصحيح المفاهيم الخاطئة، عبر كل الأجهزة الإعلام، حتى يعرف المتظاهرون أن الحكم العسكري الذي يرفضونه غير واردٍ في تقديرات قيادة الانقلاب، وأن الحكومة المدنية التي يطالبون بها على وشك التشكيل. ولا بد من أن تدعم هذا العمل الإعلامي الكبير شواهد عمليةً مثل تشكيل الحكومة المدنية، وإعلان مفوضية الانتخابات. وبذلك تتّضح صورة التغيير الحقيقية التي أخفاها غبار التضليل، ويُسمع صوت قيادة الانقلاب بعد أن ضاع وسط الصخب والضجيج.
كل الشواهد تجعل التصرّف بواقعية هو الخيار العقلاني والعملي الممكن، ويعزّه ما أبدته قيادة الانقلاب من توجهاتٍ تجعل الاطمئنان على التحوّل الديمقراطي ممكناً.