إثيوبيا والحاجة إلى هذه المعاهدة
تشتعل في إثيوبيا نار الحرب الداخلية بين إقليم التغراي والحكومة المركزية في أديس أبابا، وهي ليست الصراع الأول بين القوميات الإثيوبية التي يضمها تحالفٌ هش. وهي أيضاً امتداد لحروب خارجية، خاضتها إثيوبيا مع الجيران، فقد اشتعلت الحرب بين إثيوبيا وإريتريا على مثلث بادمي، وسبق أن خاضت إثيوبيا حرباً مع الصومال على إقليم أوغادين، وشهدت حدودها الغربية معارك مع السودان على أرض الفشقة. وتوضح هذه الحروب أن حسن الجوار بين هذه الدول شعارٌ لا يسنده الواقع، فإذا أضفنا صراعاتٍ أخرى لم تكن إثيوبيا طرفا فيها، مثل الحرب الداخلية في إقليم دارفور في السودان، وما تبعها من تدخل تشادي في تلك الحرب، ومساندة حكومة السودان المعارضة التشادية ضد الرئيس السابق إدريس ديبي، ثم التوتر بين السودان ودولة جنوب السودان الذي وصل إلى مداه في المواجهة المسلحة على أرض هجليج، إذا استصحبنا هذه الصراعات، ندرك مدى التوتر في هذا الإقليم الملتهب، الذي لا تنطفئ فيه نار الحرب إلا لتشتعل مرة أخرى، ويضم دولاً فقيرة تعيش شعوبها أوضاعاً بائسة، ولا تحتمل أي عبء إضافي، دعك عن أن يكون العبء هو الحرب، وما تعنيه من استنزاف للموارد التي تذهب في التسليح بدلاً من التنمية الخدمات، ومن مآس إنسانية، حيث يفقد مئات آلاف من الشباب الفتي أرواحهم في حروب عبثية، وتصبح الأسر بلا حماية، وتتشرّد بأطفالها اليتامى ونسائها الأرامل في معسكرات اللجوء وقرى النزوح.
يجب العمل على وقف الانحدار المستمر نحو هاوية الحرب، بالتوقيع على "معاهدة عدم الإضرار" بين دول الإقليم
تجدّدت الأزمة في إثيوبيا على محورين، داخلي وخارجي، الأول حرب إقليم التيغراي، والثاني في إدارة إثيوبيا ملف سد النهضة، حين اعتبرت حكومة إثيوبيا السد فرصة لاختلاق عدو خارجي وهمي، تحشد الحكومة الشعب المششت في مواجهته. وعمدت إلى تجاهل المطالب المصرية والسودانية المشروعة بضمانات تبدّد المخاوف من ضياع حقوق الدولتين في مياه النيل، فأحدثت توتراً في علاقتها مع الدولتين. ويتضح باستعراض مظاهر التوتر في الإقليم أن لدوله دوراً في تجدّد هذه المأساة، إما بالدخول المباشر في حربٍ مع دولة جارة، أو بدعم تمرّد داخلي في دولة أخرى، أو الاكتفاء بموقف سلبي. ولا يمكن مع استمرار هذه المأساة أن يظلّ قادة هذه الدول على النهج ذاته من التفكير الذي يعتمد الحرب وسيلةً لحل النزاعات وحسم الصراع، ويجسد البطل القومي في صورة الغازي الذي يشعل نار الحرب، ثم يخرج (يوم النصر) في كامل أبهته العسكرية يحيي الشعب الذي أنهكته الحرب.
لا بد من تفكير جديد يتجاوز تماما خيار التوتر المنهك، حتى تنصرف دول الإقليم إلى التنمية والاستقرار وتبادل المنافع وتحقيق المصالح المشتركة. وتكون الخطوة الأولى وقف الانحدار المستمر نحو هاوية الحرب، بالتوقيع على "معاهدة عدم الإضرار" بين دول الإقليم، وهي معاهدة مشتقة اسماً ومعنى من "معاهدة عدم الاعتداء" المعروفة التي تعني الالتزام باللجوء إلى الوسائل السلمية، وتجنب ما قد يفاقم الصراع. وتبشر بإمكانية تحقيق التحول المرجو إشراقاتٌ قليلةٌ، أبرزها توقيع إعلان الصداقة والسلام بين إريتريا وإثيوبيا في يوليو/ تموز 2018، الذي أنهي قطيعة بين البلدين دامت عشرين عاما، في أعقاب الحرب التي أوقعت ثمانين ألف قتيل، وقد قاد الإعلان إلى وقف التوتر وفتح الحدود وانسياب التجارة وتبادل الزيارات، فشتان بين الخيارين. وكان لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد الدور الأكبر في ذلك التحوّل، حين كسر حالة الجمود في العلاقة بزيارة تاريخية إلى العاصمة الإريترية أسمرا، واختار الصداقة والسلام مثالاً يحتذى بدلاً من البطولة الزائفة بحرق قرى الآمنين واحتلال أراضي الجار. نال أحمد جائزة نوبل للسلام لجهوده في تحقيق السلام في بلده ومع جيرانه. وهذا رصيدٌ يؤهل الرجل لتصحيح طريقة إدارة ملف سد النهضة، ولعب دور مقدّر في انتقال دول الإقليم من حالة التوتر والخلاف إلى حالة التعاون، بما يحقق لشعوب المنطقة تطلعاتها في الاستقرار والنماء.
هل يبادر رئيس الحكومة الإثيوبية حامل نوبل للسلام إلى الدعوة لمعاهدة عدم الإضرار؟
مثلما أحدث الاختراق التاريخي في علاقة بلاده بالجارة إريتريا، يمكن لأبي أحمد أن يُحدث اختراقا جديدا بالدعوة إلى التوقيع على معاهدة عدم الإضرار بين دول الإقليم الذي يضم إثيوبيا وإريتريا والصومال والسودان وجنوب السودان وتشاد ومصر، قد تتطوّر من عدم الإضرار إلى تحقيق المنافع من خلال التكامل الاقتصادي، ما يجعل المعاهدة مفتوحةً لجيران آخرين، مثل ليبيا وأفريقيا الوسطى، وتكون معلما في العلاقة الأفريقية، بعدما هدّها الصراع والخلافات في مسائل ثانوية شغلت حكومات القارّة وشعوبها عن القضايا الكبرى.
يفرض المعاهدة المقترحة الواقع المزري الذي تعيشه شعوب الإقليم، وتفرضها سهولة تبادل الإضرار بين دول المنطقة، وفداحة نتائج هذا الفعل السهل، الشيء الذي يستلزم إحداث اختراق بتقديم مبادرة لوقف حالة تبادل الإضرار؛ فتقر الدول المعنية بخطورة الحالة، لسهولة الفعل ولفداحة نتائجه. ويقرّ قادة هذه الدول بأنهم يقودون شعوباً تنتظر منهم إخراجهم من "حفرة" التخلف إلى سطح الأرض، في عالم ارتاد الفضاء وحطّ على سطح القمر. وعليه تعمل هذه الدول على تحقيق الضرورات للشعوب، بدلاً عن ادّعاء بطولاتٍ زائفة في الاستنزاف المتبادل بين دول منهكة أصلاً.
سبق أن أدركت دولٌ متقدّمة ذات موارد هائلة عبثية الاستنزاف والإنهاك المتبادل، فسارعت إلى مبادرات وقف سباق التسلح ونزع السلاح. وعليه، تتضاعف مسؤولية وقف تبادل الإضرار على قادة الدول الفقيرة التي تفتقد شعوبها كثيراً من ضرورات الحياة، فهل يبادر رئيس الحكومة الإثيوبية حامل جائزة نوبل للسلام إلى الدعوة لمعاهدة عدم الإضرار، أو ينهض للمهمة رئيس غيره؟