25 اغسطس 2024
فنجان قهوة عند المخابرات
ذات يوم، كنا نجلس مع الفتى ياسر، في مقهى جاردينيا في إدلب، نستمع إلى ثرثراته وطرائفه النادرة. وفجأة قال:
- تعرضتُ للضرب إكراماً لخاطرك، يا عمي خطيب.
أخذتُ الأمرَ، في البداية، على سبيل المزاح، وضحكتُ، لكن ياسر حافَظَ على نبرته الجادة، وتابع يقول إنه استُدعي، في أواسط سنة 2001، إلى فرع الأمن السياسي بتهمة لا تتجاوز كتابة تعليق ملتبس على منشور كنتُ قد نشرتُه على الموقع الإلكتروني "إدلب الخضراء".
ملخص المنشور المقصود أنني، وثلاثة كتاب من محافظة إدلب، اشتركنا في التوقيع على بيان إحياء المجتمع المدني الذي عُرف باسم "بيان الألف"، طالبنا فيه نظامَ الأسد بإطلاق الحريات العامة في البلاد، وإلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة. وبدلاً من أن يستجيب النظامُ لمطالبنا، استلمتْنا فروع المخابرات الإدلبية على طريقة الـ (عَشْرَة بلدي)، إذ صاروا يستدعوننا إلى مقراتهم أحياناً؛ أو يطلبون منا مراجعة الشعب المخابراتية الرئيسية الموجودة في دمشق، أحياناً أخرى، وحينما نقف أمامهم كانوا يعيدون علينا جملة واحدة، مؤداها أن أية (حرية) تتسرب إلى المجتمع السوري، لا سمح الله، ستؤدي إلى جزأرة سورية، كما قال الرفيق عبد الحليم خدام، وتسليمها لقمة سائغة لإسرائيل والصهيونية العالمية، فهل ترضونها؟
وأوردتُ في المنشور، يومئذٍ، جملة اعْتَبَرَها أصدقاء متهورة، واقترحوا علي حذفها بسرعة، وهي قولي إننا، نحن الكتاب الأربعة الذين وَقَّعْنا على البيان، أصبحنا نسير على دروب فروع المخابرات أكثر من سيارات نقل الركاب (السرافيس).
قال ياسر: أنا، وقتها، قرأتُ المنشور، وكتبتُ تحته التعليق التالي: ولا يهمك أستاذ خطيب، أبي أمين فرع، سأكلمه من أجلكم.
وفي اليوم نفسه، اتصل بي عامل المقسم في فرع الأمن السياسي لتناول فنجان قهوة عند "المعلم".. وأنتم تعرفون أن "فنجان القهوة" مصطلح سوري، يعني الاستهزاء بالشخص المُسْتَدْعَى، ففي الفروع الأمنية، يتناولُ المرءُ كل أنواع الضرب والإهانات، ويستحيل أن تقدم له ضيافة.
ولكن، ما حصل جعل هذه القناعة تتغير، ذلك أني، وما إن دخلتُ مكتب الضابط الطويل ذي الشعر الأسود الذي يسمونه "المعلم"، ولمحني، حتى ترك الأوراق التي كان يطَّلِع عليها، ووقف، وتقدم نحوي، وصافحني، وقال لي: أهلاً وسهلاً، أستاذ ياسر، تفضل استرح. وقال للحاجب: هات لنا تنين قهوة سكر وسط يا ابني.
قال الحاجب: أمرك سيدي. وخرج. وكذلك الحال بالنسبة للعنصرين اللذيْن كانا موجودين عنده، قبل دخولي. وحينما أصبحنا وحيدين، قال لي: هات لأشوف، احك لي، كيف يعني أبوك أمين فرع؟
الحقيقة أن أبي أمضى إحدى وعشرين سنة في معتقلات بيت الأسد، منها ست عشرة في سجن تدمر، والباقي في سجن صيدنايا، بتهمة الانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين. ومن هنا، خطرت ببالي، في تلك اللحظة، دعابة، فقلت للضابط: يا سيدي، أبي هو أمينُ فرع الإخوان المسلمين في إدلب.
وما إن أكملت هذه الجملة حتى نزلت على وجهي لكمة، مثل القنبلة، مع صيحة رهيبة: أنت تسخر مني ولاك حيوان؟
استخدم المعلم في الاعتداء علي ثلاثة أسلحة رهيبة، يديه ورجليه وحنجرته. وكان السلاح الثالث أشد فتكاً ومضاءً، إذ جَذَبَ إلى الغرفة عدداً كبيراً من العناصر الذين اندفعوا داخلين من الباب، وهم يضربونني ويسبونني، من دون أن يعرفوا السبب طبعاً.
وقال ياسر وهو يتنهد: لا تظنوا أبداً أنني زعلتُ من الذين أفرطوا في ضربي. فوالله إن أكثر ما أزعجني في هذه الموقعة هو الآذن الذي رأيته وهو يركن صينية القهوة جانباً ويتجه إليّ ويباشر الضرب.. بجد يا شباب، أريد ان أفهم هذه المعادلة: إنسان مختص بتقديم القهوة والشاي؛ أيش علاقته بضرب الناس؟
- تعرضتُ للضرب إكراماً لخاطرك، يا عمي خطيب.
أخذتُ الأمرَ، في البداية، على سبيل المزاح، وضحكتُ، لكن ياسر حافَظَ على نبرته الجادة، وتابع يقول إنه استُدعي، في أواسط سنة 2001، إلى فرع الأمن السياسي بتهمة لا تتجاوز كتابة تعليق ملتبس على منشور كنتُ قد نشرتُه على الموقع الإلكتروني "إدلب الخضراء".
ملخص المنشور المقصود أنني، وثلاثة كتاب من محافظة إدلب، اشتركنا في التوقيع على بيان إحياء المجتمع المدني الذي عُرف باسم "بيان الألف"، طالبنا فيه نظامَ الأسد بإطلاق الحريات العامة في البلاد، وإلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية ومحاكم أمن الدولة. وبدلاً من أن يستجيب النظامُ لمطالبنا، استلمتْنا فروع المخابرات الإدلبية على طريقة الـ (عَشْرَة بلدي)، إذ صاروا يستدعوننا إلى مقراتهم أحياناً؛ أو يطلبون منا مراجعة الشعب المخابراتية الرئيسية الموجودة في دمشق، أحياناً أخرى، وحينما نقف أمامهم كانوا يعيدون علينا جملة واحدة، مؤداها أن أية (حرية) تتسرب إلى المجتمع السوري، لا سمح الله، ستؤدي إلى جزأرة سورية، كما قال الرفيق عبد الحليم خدام، وتسليمها لقمة سائغة لإسرائيل والصهيونية العالمية، فهل ترضونها؟
وأوردتُ في المنشور، يومئذٍ، جملة اعْتَبَرَها أصدقاء متهورة، واقترحوا علي حذفها بسرعة، وهي قولي إننا، نحن الكتاب الأربعة الذين وَقَّعْنا على البيان، أصبحنا نسير على دروب فروع المخابرات أكثر من سيارات نقل الركاب (السرافيس).
قال ياسر: أنا، وقتها، قرأتُ المنشور، وكتبتُ تحته التعليق التالي: ولا يهمك أستاذ خطيب، أبي أمين فرع، سأكلمه من أجلكم.
وفي اليوم نفسه، اتصل بي عامل المقسم في فرع الأمن السياسي لتناول فنجان قهوة عند "المعلم".. وأنتم تعرفون أن "فنجان القهوة" مصطلح سوري، يعني الاستهزاء بالشخص المُسْتَدْعَى، ففي الفروع الأمنية، يتناولُ المرءُ كل أنواع الضرب والإهانات، ويستحيل أن تقدم له ضيافة.
ولكن، ما حصل جعل هذه القناعة تتغير، ذلك أني، وما إن دخلتُ مكتب الضابط الطويل ذي الشعر الأسود الذي يسمونه "المعلم"، ولمحني، حتى ترك الأوراق التي كان يطَّلِع عليها، ووقف، وتقدم نحوي، وصافحني، وقال لي: أهلاً وسهلاً، أستاذ ياسر، تفضل استرح. وقال للحاجب: هات لنا تنين قهوة سكر وسط يا ابني.
قال الحاجب: أمرك سيدي. وخرج. وكذلك الحال بالنسبة للعنصرين اللذيْن كانا موجودين عنده، قبل دخولي. وحينما أصبحنا وحيدين، قال لي: هات لأشوف، احك لي، كيف يعني أبوك أمين فرع؟
الحقيقة أن أبي أمضى إحدى وعشرين سنة في معتقلات بيت الأسد، منها ست عشرة في سجن تدمر، والباقي في سجن صيدنايا، بتهمة الانتماء إلى تنظيم الإخوان المسلمين. ومن هنا، خطرت ببالي، في تلك اللحظة، دعابة، فقلت للضابط: يا سيدي، أبي هو أمينُ فرع الإخوان المسلمين في إدلب.
وما إن أكملت هذه الجملة حتى نزلت على وجهي لكمة، مثل القنبلة، مع صيحة رهيبة: أنت تسخر مني ولاك حيوان؟
استخدم المعلم في الاعتداء علي ثلاثة أسلحة رهيبة، يديه ورجليه وحنجرته. وكان السلاح الثالث أشد فتكاً ومضاءً، إذ جَذَبَ إلى الغرفة عدداً كبيراً من العناصر الذين اندفعوا داخلين من الباب، وهم يضربونني ويسبونني، من دون أن يعرفوا السبب طبعاً.
وقال ياسر وهو يتنهد: لا تظنوا أبداً أنني زعلتُ من الذين أفرطوا في ضربي. فوالله إن أكثر ما أزعجني في هذه الموقعة هو الآذن الذي رأيته وهو يركن صينية القهوة جانباً ويتجه إليّ ويباشر الضرب.. بجد يا شباب، أريد ان أفهم هذه المعادلة: إنسان مختص بتقديم القهوة والشاي؛ أيش علاقته بضرب الناس؟