فعليّة حقوق الإنسان في المغرب
ليس الوضع الحقوقي المغربي على ما يرام، فالتراجعات آخذة في التزايد يوما بعد آخر، والوضع في هذا المجال آخذ في التدهور إلى الأسوأ، تقييمات سلبية أكدتها التقارير الدولية وزادت من كشف عورة المغرب الحقوقية، ولهذا ليست هنالك لحظة أفضل من هاته كي تتدخل الجهات الوصية دستوريا، قصد الدفع إلى التفكير جدّيا في مراجعة الوضع وتدارك ما يمكن تداركه. وبناء على هذه التوقعات المتفائلة، تلقّى الجميع التقرير السنوي لحالة حقوق الإنسان في المغرب 2022، الذي صدر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب، الأربعاء 10 مايو/ أيار الحالي، والذي اختير له هذه المرّة عنوان "إعادة ترتيب الأولويات لتعزيز فعلية الحقوق".
حسب تقديم رئيسة المجلس آمنة بوعياش، يخبرنا التقرير بأن الوضعية الحقوقية في المغرب ترتهن خلال المرحلة التي غطّاها إلى معطيات ثلاثة: استمرار آثار الجائحة، على أصعدة عدة اقتصادية واجتماعية، التداعيات الجيواقتصادية الناجمة عن الحرب الأوكرانية الروسية، وما خلفته من تضخّم زاد من تضييع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وتسارع وتيرة التغيرات المناخية.
لمواجهة هذه الارتهانات التي يعتبرها التقرير تحدّيات في المجال الحقوقي المغربي، يدعونا إلى العمل بتوصية يجعلها أهم خلاصاته، وهي تبنّي "التفكير الانعكاسي" الذي يعني استراتيجية في الفعل تقوم على سياسة التقييم الدائمة وتحديد العوائق، وتجاوز التعاطي معها بسياسة ردود الفعل، وإنما بتفكير استباقي. ولعل المهتم بالشأن السياسي المغربي والدولي عامة لا يحتاج برهنة على أهمية هذه التوصية، لكنها للأمانة ليست ابتكارا جديدا أو توصية تعد بحل جيد، إن لم نعتبرها نوعا من تعريف المعرف، فالمفترض في المؤسّسات والجهات المنتخبة العمل على هذه الشاكلة، بل لا يمكن أن تكون أفعال كل الدول التي تحترم نفسها وليدة اللحظات أو ردود فعل، فما الغاية من توصية كهذه إذن؟
التضخّم واحد من نتائج غياب المراقبة، وليس فقط وليد شمّاعة الوضع الدولي التي يحلو للحكومة تعليق كل مشكلاتها عليها
على كل، أوجه القصور التي تطاول المنظومة الحقوقية، حسب التقرير، غياب آليات التتبع والتقييم المنتظم للسياسات العمومية، وهي مسألةٌ لا يزال المغرب يجترّها منذ استقلاله، في غياب ديمقراطية حقيقية تربط الفعل بالمحاسبة، وتمنح المؤسّسات سلطة حقيقية في المتابعة والتقييم. ومن أوجه القصور، أيضا، غياب الرقابة البرلمانية، والتي نعلم جميعا أن هذه المؤسّسة لا يمكنها أن تؤدّيها إلا في مناخ ديمقراطي سليم، ومن مؤسّسات حزبية قوية، لا تزال تملك مخالب وأظافر للدفاع عن حقوق المنتخبين. وفي الجانب المتعلق بالقضاء، يربط التقرير أوجه قصوره في تعلقها بالجانب الاقتصادي المرتبط بالمقاولات التي تستفيد من ظروف بعيدة عن كل تنافسية حقيقية، ولا تتحمّل عواقب الكثير من سلوكاتها تجاه العمّال.
لتعزيز المنظمة الحقوقية، حسب عنوانه، يقترح التقرير إحالة مشاريع تعديل أربعة قوانين تتصل جلها بإصلاح السياسة الجنائية: القانون الجنائي، قانون المسطرة الجنائية، قانون المسطرة المدنية، مدونة الأسرة. وقد زادت الإحصائيات الصادرة عن مؤسّسة المندوبية السامية للتخطيط التي كشفت ارتفاع نسب حالات الطلاق الاتفاقي نسب القلق حول مستقبل الأسرة في المغرب، من دون أن نغفل نداءات الفاعلين في القطاع العدلي الداعية إلى التفكير في مدوّنة للأسرة غير مرتهنة بالتجاذبات السياسية الأيديولوجية التي جعلت منها مدوّنة قطاعية تهتم بفئة على حساب الأخرى.
أما مسألة إعادة ترتيب الأولويات التي يقترحها التقرير، فيعني بها وضع مجموعة من الحقوق على رأس القائمة، أولها الحقّ في التعليم، ثم إعادة بناء النظام الصحي. من دون أن يغفل الدعوة إلى تعزيز المساواة ومكافحة العنف ضد النساء، غير أن هذه الأولويات لا يمكن للملاحظ إلا أن يعتبرها، كأخواتها من التوصيات السابقة، مشكلة مستفحلة ولا تزيد السياسات المتوالية إلا تدهورها، ولنا في قطاع التعليم خير مثال، فهو يعيش أسوأ حالاته منذ حكومة عبد الإله بنكيران الإسلامية، لتزداد سوءا مع حكومتي سعد الدين العثماني وعزيز أخنوش، قطاع يحتضر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. أما القطاع الصحي فهشاشته الكبيرة عرّتها أزمة كورونا وجعلتها على المحكّ، لكن هل هنالك إمكانية للإصلاح، فذلك سؤال يصعب أن تجيب عنه النخب الحالية.
غياب ديمقراطية حقيقية تربط الفعل بالمحاسبة، وتمنح المؤسّسات سلطة حقيقية في المتابعة والتقييم
من الأشياء التي تلفت الاهتمام دوما في مثل هذا النوع من التقارير أرقامها وخلاصاتها وتوصياتها عن وضع الحريات العامة، ويمكن القول إن الانتقاد الذي قدّمه لوصف تدنّي وضع الحريات العامة السالبة للحرية، خصوصا في المجال الصحافي، كان خجولا جدا ولا يرقى إلى مستوى الضرر الذي لحق أسماء صحافية عديدة، وكذلك هو حال الانتقاد الذي قدّمه للتجاوزات التي طاولت الفضاء المدني الرقمي، الذي كشف التقرير ازدياد حضوره وتأثيره في الرأي العام المغربي، وداعيا إلى تقوية الضمانات التي تحميه. أما حديث التقرير عن مسألة رواج المعلومات غير الصحيحة في هذا الفضاء وكيفيات التعامل معها، فقد يخلف أثرا سلبيا عند قارئ التقرير، الذي كان ينتظر حديثا عن مقترحاتٍ تجاوز معيقات الوصول إلى المعلومة ومعيقات بلوغها قبل أي شيء آخر، بدل الحديث عن سبل ضبطها والحد منها.
وأخيرا، لم يكن التقرير، وبحسّ سياسي لصيق بظرفية المغرب الحالية، قادرا على تجاوز مسألة جد حسّاسة تهدد السلم الاجتماعي في البلاد، والمتجسّدة في دعوته إلى ضرورة تفعيل مراقبة منظومة تسويق السلع والخدمات ومواجهة الاحتكار والمضاربات والإفلات من العقاب، والتي أكّد المندوب السامي للتخطيط أحمد الحليمي، في حوار مع موقع ميديا 24 في 26 مارس/ آذار الماضي، أن التضخّم واحد من نتائج غياب هذه المراقبة، وليس فقط وليد شمّاعة الوضع الدولي (الحرب الروسية الأوكرانية) التي يحلو للحكومة تعليق كل مشكلاتها عليها، بل والاغتناء على حسابها كما هو حاصل في فوضى قطاع المحروقات.
وأخيرا، كانت إيجابية الدعوة إلى الإسراع بإخراج النصوص التنظيمية التي ستمكّن مجلس المنافسة من تأدية مهامه، فهي من جهة خطوة في مسار المراقبة والتقييم، لكنها للأسف تعني، من جهة أخرى، تأخّر المغرب في كسب هذه المعركة، وتأخّره أيضا في الحصول على واجهة حقوقية دولية مشرفة.