فصامية الحال الفلسطيني والديمقراطية الغائبة

31 يناير 2021
+ الخط -

أخيرا، أفرج رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عباس، عن العملية الانتخابية، فيما اتجهت حركة حماس إلى انتهاج دربٍ يقود إلى عملية مصالحة فوقية، في حين ترك أمر الانتخابات والمصالحة لمراسيم رئاسية ومواقف مزاجية وفئوية، قد تطبق وقد لا تطبق حتى النهاية المأمولة، مثل المرّات السابقة التي كانت تشهد انتكاساتٍ لا حصر لها في الوضع الوطني، وعلى الأصعدة كافة، حيث استمر أصحاب الدعوات الانقسامية، لدى طرفي الأزمة الوطنية، في تنمية جذور الانقسام والتباعد الوطني، وتلفيق المواقف التي تهم أصحابها من كلا الطرفين، واتهام كل طرفٍ الآخر بالمسؤولية عما جرى ويجري، ليتبين، مع الوقت، أن الطرفين يساهمان في هذا التباعد، ولا يريد أيٌّ منهما العودة إلى مظلة الإجماع الوطني والوحدة الوطنية، لأن مصالحهما بلغت تعارضاتها حد التناقض العميق؛ فهل تكون ورشة الانتخابات والخطوات التصالحية الفوقية مختلفةً هذه المرة؟
من مجموع المؤشرات التي تسود الوضع الوطني هذه الأيام، يستدل على أن الخلافات المبدئية، سلطوية الطابع، لم تزل على حالها، والانقسام العمودي أصبح يستظل وينتج انقساماتٍ أفقية، في ظل استمرار طرفي الأزمة في التحكّم بمفاصلها الرئيسة، في وقت يستمرّ استبعاد كامل أطراف الصف الوطني عن المشاركة في الخطوات التي ينبغي أن يقود إليها التصالح والتوافقات الوطنية الجماعية، ليجري استبدالها بتصالحاتٍ فوقيةٍ ثنائية، وتوافقاتٍ لا يُشرك فيها كل طرفٍ محالفيه من الأطراف الأخرى، بعيدا من الروح الجبهوية المتراصّة وطنيا. وهذا تحديدا لا يمكنه أن يقود إلى ما تصبو إليه الحالة الفلسطينية، من إنهاء للانقسام وعودة الإجماع الوطني والوحدة الوطنية إلى سابق عهدها، حين كان ذلك قدس أقداس قيادات كاريزمية غابت أو غيّبت عن الساحة، ولم تعد مؤثرة في الحال الوطني اليوم، لا في فصائلها ولا لدى الفصائل الأخرى، بمعنى غياب العلاقات الجبهوية، وبالتالي تفكّك العلاقات الوطنية؛ وهذا هو منبع الأزمة المتواصلة وأصلها، منذ بدايات الانقسام السياسي والجغرافي الذي أصبح هو الأصل، وما عداه فروع ناتجة عن هذا الأصل الذي كتم أنفاس الحركة الوطنية، وباعد بين أطرافها، وشتت إرثها التحرّري لصالح غايات سلطوية شخصية وفئوية خاصة، وفصائلية مرتهنة لقوى إقليمية، وفرض حساباتٍ لا علاقة لها بالوطنية الفلسطينية، قدر ارتهانها لتلك القوى ـ إقليميا ودوليا، ما زالت هي الأقوى، ماديا وماليا وسياسيا، وهيمنتها ساطعة وواضحة على اتجاهات القيادات الفاعلة وتوجهاتها لدى طرفي الأزمة الوطنية.

إذا كان ثمّة أمل لبلوغ الوضع الوطني الفلسطيني غاياته المرجوّة، فالمطلوب ليس أقل من احترام القانون الدستوري

جرى هذا كله ويجري في ظل متغيرات دولية ساهمت في مزيد من وضع أسس تهويدية أكثر وضوحا، شارك في إنتاجها اليمين الدولي الداعم والمتحالف مع اليمين الليكودي الصهيوني، بمعية يمين ليكودي عربي، عبر تحالفاتٍ تطبيعية، توافقت، وبوقاحة، مع مخطط "صفقة العصر"، ونزعت القدس من عروبتها، مقدّمة لتهويدها في عز سيطرة الإدارة الترامبية الراحلة، وتواصل مخطط الضم الزاحف؛ بدءا من مستوطنات الضفة الغربية، وصولا إلى مناطق الأغوار، وإغراقها بمزيد من المستوطنات التي يخطط لأن تصبح يوما حاجزا حدوديا بين شرق الأردن وكيان الاحتلال، وذلك لقطع أي تواصلٍ بين الضفة الغربية والضفة الشرقية لنهر الأردن، بهدف استبعاد قيام حتى "ميني دويلة" فلسطينية في بعض أحياء المدن الفلسطينية في الضفة الغربية. وذلك في ما يشبه الكانتونات المعزولة المحاطة بمستوطنات ومستوطنين شرسين، بدعمٍ من حكومتهم الراعية لهم ولأهدافهم في تقليص الأراضي المملوكة للفلسطينيين، ومنع إقامة أي شكل من السيادة الوطنية والاستقلالية الفلسطينية عن الاحتلال، وذلك هو الهدف التهويدي الأوضح الذي يستهدف إقامة شراكة تامة مع شبه دويلة التنسيق الأمني، لا مع دولة فلسطينية مستقلة حقا، لم يجرؤ أصحابها حتى اللحظة الإعلان عن قيامها.
أخيرا.. إذا كان ثمة أمل لبلوغ الوضع الوطني الفلسطيني غاياته المرجوّة، فالمطلوب ليس أقل من احترام القانون الدستوري، والتعامل بصرامة مع الأسس التي قام عليها النظام السياسي الفلسطيني، والتعاطي معه بنوع من الديمقراطية التي تحترم قيم مثل هذا النظام ومبادئه، انطلاقا من جماعية الرؤى الجبهوية، لا من أحادية الفرد واستبداده ونزعاته الذاتية الخاصة النابعة من مصالحه الشخصية الفئوية، وذلك ليس هو حال الوضع الوطني الفلسطيني للأسف.
هذا في وقت يعاني الوضع الوطني الفلسطيني برمته إشكالاتٍ لا حصر لها، منذ تشكل النظام السياسي في أعقاب اتفاقات أوسلو، ونشوء "السلطة الوطنية"؛ منذ ذلك الحين، والنظام السياسي الناشئ يتقلب على جمر السياسات والمسلكيات الأحادية والفردانية وشيوع الروح الانقسامية، تلك التي حوّلت المؤسسات التي نشأت في كنف منظمة التحرير وقوى المشروع الوطني إلى أدواتٍ زبائنيةٍ لسلطة ناشئة، بهت في ظلها النظام السياسي، وتراجع أي دور سياسي أو تشريعي أو قضائي له، وانتكست الوحدة الوطنية وجرى تدميرها بانقسام سياسي وجغرافي، تحطمت عبره بنية النظام السياسي، وها هي اليوم تشهد مزيدا من التخبط والسماح بتكريس فردانية النظام وشخصنته والقرارات غير المدروسة، ومن خلف ظهر كامل القوى والفصائل التي أصبح السكون والسكوت ديدن معظمها مقابل مصالح ذاتية فئوية انتهازية ووصولية.

فشلت "ديمقراطية البنادق" في تحويل ذاتها إلى "ديمقراطية المؤسسات"، حتى وصل الوضع الوطني إلى حدودٍ كارثية

المشكلة في الواقع الوطني اليوم ابتعاده كثيرا عن الواقع، وخضوعه لأمر واقع، لا ينتمي للوطنية الفلسطينية التي عهدناها منذ السنوات الأولى للعمل الكفاحي، وما انفراط المؤسسات وشكلانيتها سوى الواقع الموضوعي البديل الذي حلّ محل كامل المؤسسات وقلب أوضاعها، وابتعد بها نحو واقعٍ يتحكّم فيه الفرد وحاشيته والفئويات السلطوية كسلطة عميقة، لا تتناسب وما يفترض أنها تمثله من قيم حركة وطنية لم تنجز من أهدافها سوى أقل القليل، فالسلطة بقيت سلطةً محدودة على الرغم من انقسامها، والدولة مجرّد اسم بلا مسمى، فيما الوطن كله رهين احتلال فاشي، لا يريد أن يتخلّى عما اغتصبه من أراضٍ تحولت، مع الوقت، إلى مستوطناتٍ تعج بالمستوطنين الذين صادروا، بمعية "دولتهم"، كل ما طاولته أيديهم وسمحت به لهم تلك "الدولة".
لقد فشلت "ديمقراطية البنادق" في تحويل ذاتها إلى "ديمقراطية المؤسسات"، حتى وصل الوضع الوطني إلى حدودٍ كارثية، حيث لا ديمقراطية ولا مؤسسات، وإلا فما نراه اليوم في مناطق السلطة، وعلى صعيد قيادتها والقرارات الفردية، ونية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني، وإصدار مراسيم رئاسية عديدة، يتناقض هذا كله وواقع حال الوضع الوطني الغارق في فصاميةٍ لا نظير لها، بين ما يريد من أهدافه الخاصة وما لا يريد من أهداف عامة، وذلك هو ديدن عديد من سلطات بلادنا التي أدمنت سلطوية الاستبداد، ونحرت، وإلى حين، وربما إلى الأبد، ديمقراطية الحكم الرشيد.

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.