فرنسا من "التّوحّش" إلى "الانعزالية الإسلامية"
يحاول السياسيون الفرنسيون، من اليمين واليسار، سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة، إبداع مفاهيم سياسية جديدة، لكنها مسترسلة في التعبير عن العقل السياسي الفرنسي المتعالي، والذي لا يرى، في الآخرين، إلا أنّهم أصل الإشكالات التي تعيشها فرنسا، ليكون جديد إبداعاتهم مفهوميْن خطيريْن، ثقافيا وسياسيا: "التّوحّش"، وهو مفهوم استخدمه وزير الداخلية، جيروم دارمانان، و"الانعزالية الإسلامية"، وهو مفهوم يتصدّر واجهة مشروع قانون يُعرض، في الأيّام القليلة المقبلة، أمام البرلمان الفرنسي لإقراره.
بداية، يجب التّذكير، هنا، بأنّ الأزمات الاقتصادية الفرنسية والانهزامية المتواصلة، على أكثر من صعيد، على المستويين، الأوروبي والدولي، إضافة إلى التراجع الذي يتأكّد، يوما بعد يوم، على الأصعدة والمستويات كافة، يتمّ إدارته بالرياضة الفرنسية المفضلة، وهي إبداع التصورات الفلسفية الجديدة التي تُعرف بها المدرسة الفكرية الفرنسية، ولكن في إطار خط واحد، لا تحيد عنه التصورات، وهو الخطّ الذي يحاول الحط من قيمة الآخرين، وإبراز أنّ القيم الفرنسية والتصوّرات الفكرية والفلسفية هي أساس العقل الفكري الغربي الحديث، وبخاصّة في مسائل السياسة والثقافة.
على هذا الأساس، جاء تصريح وزير الداخلية الفرنسي، أخيرا، ليُوجِد جدلا كبيرا في فرنسا، عندما استخدم مصطلح "توحّش" لوصف الحالة التي تردّى فيها وإليها المجتمع الفرنسي، بمؤشّرات ارتفاع الجرائم، بكلّ أنواعها، وخصوصا في الضواحي التي يسكنها المغاربيون والأفارقة، وهو مفهوم رفضه سياسيون وإعلاميون كثيرون، باعتبار أنّ نسب ارتفاع تلك الجرائم مسألة إحصائيات ومؤشّرات تتغيّر بفعل تغيّر أساليب الحياة وتطوّرها، وباعتبار آخر يشير إلى تحاملٍ من السّلطة على جزء من مواطني البلاد، وتحميلهم وزر الظاهرة، من دون أن يكون هناك ما يقوّي الفرضية من براهين ودراسات موثقة من الأجهزة المختصة (شرطة، درك، مراكز دراسات.. إلخ).
يأتي مفهوم "الانعزالية الإسلامية" في توقيتٍ تعاني فرنسا فيه أزمة اقتصادية خانقة، بسبب كورونا، كما تعاني من فوارق اجتماعية عميقة
ذلك المفهوم، في إدراك قائله، هو ذاته الذي استخدمه، ذات يوم، الرّئيس الرّاحل شيراك، عندما تحدّث عن ضوضاء ساكني الضّواحي ورائحتهم، وهو، أيضا، المفهوم الذي عناه الرّئيس السّابق، نيكولا ساركوزي، عندما وعد، غداة انطلاق احتجاجاتٍ في الضواحي، على إثر قتل الشرطة مواطنيْن، أحدهما من أصل أفريقي والآخر من أصل مغاربي، بتنظيف الضواحي من الأوغاد. كما يُعّد المفهوم، في حدّ ذاته، توحّشا من النّخبة الإعلامية والمثقّفة الفرنسية، وهي تعالج، بالتحليل، مسائل متعلّقة بحرية التعبير، العلمانية والإسلام في بلاد حقوق الإنسان والحرية.
الفرق الوحيد، هنا، هو مجيء المفهوم في توقيتٍ تعاني فرنسا فيه أزمة اقتصادية خانقة، من جرّاء تفشّي الوباء، كما تعاني من فوارق اجتماعية عميقة تحتج، بسببها، السترات الصفراء، منذ قرابة العامين، الآن من دون أن تجد لها حلاّ، بل يبدو، من إجراءات الرئيس الحالي وإدارته لها، الاقتصادية منها بصفة خاصّة، بأنها ستعمّقها. وبالتالي، تحتاج الحكومة إلى كبش فداء لعلّه يسكّن الأزمة إلى حين، ويكون قد اكتسب، إلى جانبه، أصواتا من اليمين واليمين المتطرّف في أفق رئاسيات 2022 التي سنشاهد، في أثرها، ارتفاع أسهم من يصرّح بل يعرض بالمهاجرين، بالإسلام وبالآخر، أيا كان.
بلغت لغة التنمّر بالمهاجرين في فرنسا مبلغا كبيرا في مناسبتين، نُعت فيها الرئيس ماكرون باليميني المتطرّف، تارّة، وبالمفوض السامي أو بونابارت
ولم يكتف الفرنسيون بذلك "التّوحّش"، في تصوّر ما بلغته الفئة المهاجرة من انحطاط وبعد عن القيم الفرنسية، ليضيفوا إليه، منذ أشهر، ثم على إثر عملية المقر القديم لمجلة شارلي إيبدو، مفهوما جديدا سيكون عنوانا لمشروع قانون، وهو مفهوم "الإنعزالية الإسلامية"، والذي يمكن اعتباره، وفق تحليلات حتى بعض الفرنسيين أنفسهم، تحريضا على شريحةٍ من مواطني البلاد، ومعاملتهم بعنصريةٍ قد تصل إلى حدّ الفصل العنصري، باعتبار أنّ من سيتعامل معهم القانون هم من المهاجرين المعتنقين لدين آخر والقاطنين في الضواحي، أي أنّ ثمّة فئة بشرية محدّدة تُوجّه لها تهمة إرادة الإنفصال عن الجمهورية، باعتناق أفكار غير التي يعتقدها مجمل الفرنسيين، وباعتبار أنّ هؤلاء المواطنين الآخرين موجودون في الضواحي التي لا يسكنها غيرهم، وأين تنتشر الجريمة والعنف أو التوحّش، على حد وصف وزير الدّاخلية، دارمانان.
وقد بلغت لغة التنمّر بالمهاجرين في فرنسا مبلغا كبيرا في مناسبتين، نُعت فيها الرئيس ماكرون باليميني المتطرّف، تارّة، وبالمفوض السامي أو بونابارت، إمبراطور فرنسا التاريخي، تارّة أخرى، وذلك غداة خطابين، خصّص الأوّل للإسلام في فرنسا، وقال فيه إن هذا الدين في أزمة، وإن تعامل الدولة الفرنسية المتسامح مع المسلمين هو ما شجّعهم على بناء الجدار العازل بينهم وبين قوانين الجمهورية. وفي خطابٍ آخر مُوجّه إلى الطّبقة السياسية اللبنانية، كانت كلمته بلغةٍ متعالية وفظة، بعيدة، كما وصفها كثيرون، عن تقاليد الدبلوماسية، وكأن الرئيس الفرنسي نسي نفسه والتقط صورا من ماضي فرنسا الإستعماري، وراح يخاطب باللّغة نفسها أهالي بلاد استعمرها، وليسوا مواطنين في بلد مستقل وذي سيادة، وهو لبنان، على أثر فشل الوزير الأوّل المسمّى، مصطفى أديب، في تشكيل الحكومة، وفق ترتيبات باريس، كما قال في الإليزيه، معلّقا على ذلك الموقف.
على الجانب الإعلامي، فتح ذلك شهية المعلّقين المعروفين بالعداء للأجانب وكراهية المهاجرين، فاتحين النار على المغاربيين والأفارقة، وخصوصا المسلمين منهم، مبرزين قراءتهم العنصرية للنص المقدّس الإسلامي الذي افتروا عليه، أنه يدعو إلى ذبح الكفار، كما جاءوا، بزعمهم، بفتاوى تحلّل للمجرمين القيام بكل ما هو منحطّ من أفعال، باعتبار، وفق آرائهم، بأن ذلك كله جهاد، مع التأكيد على أن حرية التعبير هي أكثر ما يزعج المسلمين، دافعا إيّاهم إلى الانفصام والانفصال عن الجمهورية، ما يستدعي تشريع قانونٍ رادع لهم، يمنعهم من الانعزال عن الجمهورية، مع تحميلهم، أي المسلمين، فطريا بل وجينيا، قصور فرنسا على كل الأصعدة، وإشكالاتها السابقة، الحالية والمستقبلية، إذا لم تجد الدولة الفرنسية للمشكلة حلا جذريا بإبداع إسلام فرنسي ترعاه الجمهورية، وليس الدول الأجنبية، وفي مقدمتها الجزائر والمغرب وتركيا.
الخطاب الفرنسي، السياسي والإعلامي، بارومتر قياس مؤشرات توجهات اليمين السياسي في أوروبا
تُعتبر تلك التوجهات رديفة مواقف محرجة لفرنسا، تهدف منها إلى تبنّي استراتيجية الإلهاء الإعلامي والسياسي، وهي المواقف التي تشير إلى أزمة هيكلية للإقتصاد الفرنسي، شعور بتراجع المكانة الدولية، إضافة إلى تزامن ذلك كله مع اقتراب موعد النقاش الإنتخابي الرئاسي، المرتقب في 2022، والذي يراهن الجميع على أنّه سيكون يمينيا بامتياز من جرّاء الجو العام في فرنسا المتردّي بمؤشرات الأداء الاقتصادي والهزائم المتوالية في شرق المتوسط والقوقاز بالإحراج التركي، وفي الإتحاد الأوروبي بالزعامة الألمانية التي تعيد شبح تصدّر برلين المشهد الأوروبي، وبخاصة مع "بريكست" البريطاني والسياسة الأميركية غير المحدّدة المعالم في العهدة الرئاسية لترامب.
من الأهمية بمكان قراءة الخطاب الفرنسي، السياسي والإعلامي، لأنه بارومتر قياس مؤشرات توجهات اليمين السياسي في أوروبا، بل وارتفاع توجهات الشعور المتنامي الحامل لكراهية الأجانب، اللاجئين والمهاجرين، بصفة عامة، في أكثر من بلد، كما أنه من الأهمية بمكان ربط ذلك مع الأزمة الاقتصادية التي ستزداد وتيرتها من جرّاء تداعيات الوباء العالمي، ومن دون إغفال أهمية المواعيد الانتخابية ودورها في تغذية تلك المواقف، والتي تعطي فرنسا إشارة انطلاقتها، على الدوام، باعتبارها دولةً مستقبلة للعمالة المهاجرة، وممن شهدت أكبر عدد من الهجمات الإرهابية المتبنّاة، دوما، من منظمات إسلاموية.
هناك، بالنتيجة، توحش تزداد وتيرته، كما أن هناك انعزالا. ولكن توحش من وانعزال من؟ الإجابة الفرنسية كانت سياسية وأيديولوجية، ننتظر من الأوروبيين والغرب عموما الإعلان عن احتواء الخطاب المرافق له، والمغذّي روافده من العنصرية والكراهية للأجانب أو تصديقه. وبالتالي، الانتشار، مما سيسبّب، مستقبلا، شرخا مجتمعيا في الغرب بين فئتين من المواطنين، وجنسية بميزانين، بل وقوانين بمكيالين.