فرنسا الاستعمارية .. البقاء في أفريقيا

03 مايو 2021
+ الخط -

جاءت كلمات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في جنازة الرئيس التشادي الراحل، إدريس ديبي، لتكشف الارتباط الوثيق بين المركز الكولونيالي في باريس والدول الأفريقية التي تعتبرها فرنسا حديقتها الخلفية. جمع خطاب التأبين بين العاطفة المفرطة، كما تجلّت في قول ماكرون: "عزيزي الرئيس، عزيزي المشير، عزيزي إدريس (...). لقد عشت جندياً ومتّ جندياً، الأسلحة بيديك"، وتأكيد استمرارية السياسة الفرنسية القائمة على دعم الأنظمة السلطوية التابعة لها، وخلاصته أن "فرنسا لن تسمح لأحد أبداً، لا اليوم ولا غداً، بتعريض استقرار تشاد وسلامة أراضيها للخطر".
ظلّت السياسة الفرنسية إزاء مستعمراتها السابقة في القارّة الأفريقية قائمةً على ثنائية التبعية الاقتصادية والولاء السياسي الأعمى، وهو ما كان يستلزم دوماً دعم أنظمة استبدادية وشخصيات سلطوية لأداء أدوار وظيفية خدمةً لمصالح "الحليف" الفرنسي. وتظل أهم ركائز النفوذ الفرنسي قائمةً على عاملين أساسيين: أولهما نشر الثقافة الفرنكوفونية. والمعروف أن من جملة 54 دولة أفريقية، منها 27 دولة تعتمد الفرنسية لغة رسمية، وهو ما يجعل القارّة الإفريقية أكبر فضاء جغرافي ناطق بالفرنسية خارج فرنسا، وحتى المستعمرات السابقة التي لا تعتمد الفرنسية لغةً رسميةً، مثل تونس والجزائر والمغرب، فإن الفرنسية هي لغة التعليم والإدارة فيها. أما العامل الثاني، فهو الارتباط الاقتصادي الوثيق بين باريس ومستعمراتها السابقة.

جوهر الممارسة السياسية الفرنسية لا يزال كولونيالياً بامتياز، وهو ما يكشف عنه السلوك الفرنسي في تعامله مع قضايا الاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان

والغريب أن العملة الفرنسية، الفرنك، التي سُحبت من التداول في فرنسا ذاتها، ما زالت سارية المفعول في صورة الفرنك الأفريقي الذي تعتمده 14 دولة أفريقية ما زالت، على الرغم من مضي عقود على استقلالها، تحتفظ بجزء مهم من احتياطاتها المالية في البنك المركزي الفرنسي، وهو ما يضمن لفرنسا استمرار هيمنتها على هذه الدول، وتقرير مصيرها. وإذا أضفنا إلى هذه العوامل الشركات الفرنسية التي تعمل في البلدان الأفريقية في استخراج المواد الأولية في ظل حضور عسكري فرنسي مباشر على الأرض، ندرك أهمية وجود أنظمةٍ سياسيةٍ مغلقةٍ موالية، تحفظ لفرنسا مصالحها.
على الرغم من أن الرئيس ماكرون، في زيارته ساحل العاج سنة 2019، صرّح بأن الاستعمار الذي مارسته بلاده كان "خطأً جسيماً ارتكبته الجمهورية"، داعياً إلى فتح "صفحة جديدة" بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في القارّة السمراء، إلا أن جوهر الممارسة السياسية الفرنسية لا يزال كولونيالياً بامتياز، وهو ما يكشف عنه السلوك الفرنسي في تعامله مع قضايا الاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان، فلم يكن النظام السياسي الفرنسي معنياً يوماً بدعم حركات التحرّر، أو نقد أنظمة الاستبداد، بقدر ما كان يتحرّك ضد أي محاولة لبناء أنظمة حرّة أو ديمقراطية. مثلاً، تعرّضت بوركينا فاسو، زمن قائدها توماس سنكارا، للتضييق الاقتصادي الفرنسي، وانتهى الأمر بتأييد الانقلاب عليه في مجزرة دمويةٍ ما زالت تلقي بظلها على الحياة السياسية في تلك الدولة الأفريقية. وفي الوقت نفسه، ظلت فرنسا من أكثر الدول انزعاجاً من أي تحولات ديمقراطية في الدول العربية، وهو ما تجلى في موقفها السلبي من الثورة التونسية، وفي علاقتها الوثيقة بالنظام العسكري في مصر. وعلى الرغم من رفعها شعارات التنوير والحرية وحقوق الإنسان والمواطن، لكن ظل البون شاسعاً بين الشعارات والممارسة الفرنسية على الأرض، فقد ظلت سياساتها معنيةً دوماً ببناء علاقات مع أنظمة تخدم مصالحها أكثر من تقديم المساعدة إلى شعوبٍ تعاني الفقر والقهر والاضطهاد.

حركات التمرّد في الدول الأفريقية ليست وليدة اليوم، ولن تنتهي في المستقبل القريب، لأنها نتاج عقود من غياب التنمية الاقتصادية والسياسات الفاشلة

ربما كان أكثر ما يزعج فرنسا اليوم، بعد رحيل أحد "حلفائها" المقرّبين، الرئيس التشادي ديبي، شعورها بدخول أطراف دولية جديدة، تحاول منافستها على مواقع نفوذها التقليدي، وأبرز الجهات التي تحاول التمدّد أفريقياً، نجد الحضور الروسي المستجدّ، وكذلك نظيره التركي. بالإضافة طبعاً إلى النشاط الاقتصادي الصيني الحثيث، في حالةٍ من المنافسة تنتج مزيداً من الحذر الفرنسي، خوفاً على المصالح التي راكمتها طوال عقود، ولا ترغب قطعاً في التفريط فيها، وهو ما يجعلها تميل أكثر إلى التمدّد في الجغرافيا الإفريقية، تحت شعار مكافحة الإرهاب "الإسلامي" الذي لا يتوقف الرئيس الفرنسي عن الحديث عنه، باعتباره الخطر المُحدق في المنطقة والعالم. وحقيقة الأمر، أن حركات التمرّد في الدول الأفريقية ليست وليدة اليوم، ولن تنتهي في المستقبل القريب، لأنها نتاج عقود من غياب التنمية الاقتصادية والسياسات الفاشلة التي تمارسها أعتى الدكتاتوريات في العالم، برعاية رسمية فرنسية. وكلّما مات طاغية أو قتل، ظهر الرئيس الفرنسي ليحدثنا عن مناقب الفقيد الذي ليس له نظير، ومُرحّباً بالحاكم الجديد الذي سيكون مثالياً أكثر كلما كان حليفاً جيداً لفرنسا.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.