"فدائي .. فدائي" في الدوحة
لعلّها المرّة الأولى، منذ اعتماد مسمّاه "السلام الوطني الفلسطيني"، في العام 2005، يُسمع شيءٌ منه، الثلاثاء الماضي، في عاصمةٍ عربيةٍ، في تظاهرة رسمية. في الاحتفالية الباذخة لمنافسات بطولة كأس العرب في الدوحة، وضمن مَغناةٍ جمعت الأناشيد الوطنية العربية كلها في مقطوعاتٍ متتابعةٍ مترابطة، ومع مشهديةٍ جذّابةٍ تأخذ العيون في الأثناء إلى أعلام الأوطان العربية. وقد أحدَث ترديد الشابّين وزميلتهما الذين أدّوا هذا العمل الفني الجامع "فدائي .. فدائي .. فدائي/ يا أرضي يا أرض الجدود .." تفاعلا خاصّا وكثيف الإيحاءات من الجمهور على مدرّجات "استاد البيت"، وأمام الحضور الرفيع لأمير قطر وضيوفه رئيسي فلسطين ولبنان وولي عهد الأردن، وكذا من ملايين النظّارة على شاشات التلفزات. وفي الوُسع أن تُرى الغبطةُ العربيةُ العريضة بالإنصات إلى بيتي قصيدٍ يحتفيان بالفدائي شاهدا متجدّدا على ما لقضية فلسطين من مكانةٍ في أفئدة العرب وحشاياهم. غير أنه في الوسع أيضا أن يستثير الأمر حزمةً من التأملات والأفكار، ليس في خصوص الواقعة الكروية التي يجتمع فيها العرب على ما يوحّدهم، وإنما في غير أمرٍ وأمرٍ، من قبيل أن الفلسطينيين ما زالوا يقيمون على التغنّي بالفدائي وتوليته منزلةً غايةً في الرفعة، عندما يتعلّقون به اسما دالا عليهم في نشيدِهم الوطني. فيما المعلوم للقريب والبعيد أن العمل الفدائي الذي خصّه الشاعر سعيد المزيّن لمّا كتب نشيدته تلك قبل أزيد من خمسة عقود لم يعد ماثلا أمام العيون، بل إن مفردة الفدائي ذاتها غائبةٌ في معجم اللحظة الفلسطينية الراهنة، فثمّة تنسيقٌ أمنيٌّ نشط بين أجهزة السلطة الوطنية وأجهزة المحتلّين يحظُر التمنطق بالسلاح لتأدية عملٍ مقاوم، ومن يبتدر هذا الفعل تكفيه محبّة الناس فيما تواجهه الأجهزة "المختصّة" بالاعتقال. وفي ضفّة فصائل أخرى، "حماس" وقريناتها، ثمّة ازورارٌ ظاهرٌ عن تسمية المقاومين فدائيين، والذائع في أدبياتٍ واحتفالياتٍ وبياناتٍ غزيرةٍ أنهم "مجاهدون". وبذلك، لواحدِنا أن يرى في المساحة الشاسعة بين المنظور المعايَن والنشيد الذي سوّغت احتفالية الدوحة البهيجة الاكتراث به هنا دليلا على ما يستبدّ بالفلسطينيين من شغفٍ بالرموز والأمثولات والغنائيات والأساطير، الأمر الذي ربما يجوز حسبانُه من أسباب مكوثهم في الشعريات وبلاغيات القرائح والمخيلات، فيما أعداؤهم في غير هذا الوارد أبدا.
ولمّا كان في أرشيف "فدائي" أن منظمة التحرير الفلسطينية اعتمدته رسميا في 1972 بديلا عن "موطني" الذي اقترن بالفلسطينيين منذ الثلاثينيات، لإبراهيم طوقان، فإن مما يبعثُ على الاستفهام، وبعض الحيرة ربما، أن إسرائيل طالبت الفلسطينيين بأن يبتعدوا عن النشيد الأقدم. ويرد لدى غير باحثٍ ومتابعٍ أن هذا كان من شروطها لقبول إقامة السلطة الوطنية بعد "أوسلو". ذلك أن "موطني" يحتفل بفكرة الوطن وجماله وبهائه، ولا يسمّي فلسطين، على غير النشيد التالي الذي يأتي على فلسطين والثأر والسلاح. وإذا صحّ أن طلبا إسرائيليا كهذا قد جرى، فإنه قد يعود إلى ما تشتمل عليه أبيات إبراهيم طوقان من تغنٍّ بعزّ يأتي به الوطن، بمجدٍ يحضُر في الوطن وعُلاه، ومن علوٍّ في شعرية الإيحاءات، على نقيض المباشرة العسكرية التعبوية في أبيات سعيد المزيّن. ولكن إسرائيل ليست ناقدا في الأدب وعلم الجمال، حتى نأخذ "اجتهادا" كهذا على محمل الجدّ في الوقوع على سبب تبرّمها من "موطني"، سيما وأن "سطوةً" فتحاويةً كانت وراء ترسيم نشيد "فدائي"، أسبق من قيام السلطة في رام الله. ولكنها نقطة نظامٍ تنكتب هنا، أن أصحاب الألسنة الطويلة لا يجدون في "موطني" ما يتقوّلونه، على غير ما لا حرج من القول فيه، عن فدائيٍّ ممنوعٍ في الحال الفلسطيني وفدائي يُتغنّى به في الأنشودة الوطنية.
أيا كان مؤدّى أي حديثٍ يشرّق ويغرّب في المسألة، فإن إتيان احتفالية الدوحة على فدائيٍّ، في نشيد دولة فلسطين، يشيع الحبور والسرور، سيّما وأن عزف "النشيد الوطني الإسرائيلي" في غير عاصمةٍ خليجيةٍ صار مألوفا، ويبعث على ما هو أكثر من امتعاض، كما صار في الدوحة لمّا نال لاعب جمباز إسرائيلي ذهبيةً في بطولة عالمية في 2019، وقبل ذلك في أبوظبي لمّا نال لاعب جودو إسرائيلي ذهبية في بطولة أخرى في 2018، وتاليا، صارت المناسبات بلا عدد، لمّا تقاطر سفراء دولة الاحتلال ومسؤولون منها إلى المنامة وأبوظبي .. إذن، مرحى لـ"فدائي" في الدوحة.