فتش عن السودان وذهبه اللامع

24 ابريل 2023
+ الخط -

يبقى السؤال الرئيسي: لمَ السودان؟ البلد الفقير ذو الاقتصاد شبه المنهار، حيث يعاني شعبه أزمات خانقة، إضافة إلى استمرار الصراعات القاتلة بين الجيش وقوات الدعم السريع على السلطة منذ أسابيع. لمَ السودان تحديدًا، مع العلم أن ليبيا كانت ساحة قتال أيضًا، وأن الأزمات تتعمّق بين الجزائر والمغرب، وهناك مناطق ساخنة في هذه القارّة السمراء اشتعلت الحرب فيها، أو قادرة على الاشتعال وإحداث التغيير بشيء ما في عمق القارّة؟
في عرض سريع لموقع السودان، نجده ضمن نقطة تقاطع بين الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية وبين طموح الدول الكبرى وطمعها في التنافس على القارة السمراء، فالسودان يقع على حدود سبع دول أفريقية إضافة إلى ساحل ممتد على البحر الأحمر بطول يبلغ 720 كيلومترًا. ويعدّ البحر الأحمر شريانًا حيويًا للتجارة العالمية المارّة من قناة السويس، خصوصا النفط والغاز. وأخيرا، تضاعف اهتمام أميركا بقضية أمن البحر الأحمر، وبدا ذلك ظاهرًا في قيادتها قوةً بحريةً مشتركة مع كثيرين من حلفائها لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، ضدّ أي تهديداتٍ من دول أو جماعات مارقة.
في الوقت ذاته، أدركت كل من بكين وموسكو، منذ مدة طويلة، الأهمية السياسية والعسكرية والاقتصادية للسودان، ضمن إطار أوسع لاغتنام الفرص لتوسيع نفوذهما عبر القارّة الأفريقية، وأصبح توغّل النفوذين، الصيني الاقتصادي، والروسي الأمني، في السودان، مصدر قلق متزايد لصانعي السياسة الأميركيين.
لطالما اجتذب موقع السودان الاستراتيجي المطلّ على البحر الأحمر وثراء موارده الطبيعية الساعين إلى كسب (وتقوية) مصالح أو نفوذ في المنطقة. تزاحمت الاستثمارات العالمية على السودان، في مقدمها استثمارات روسيا والإمارات، إذ يستثمر البلدان في قطاع الموانئ، وفي التعدين والذهب، الذي تسيطر عليه بشكل كبير قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).

زاد اهتمام الأميركي، بالشأن السوداني بعد انهيار نظام البشير، حيث تفاءلت واشنطن بما حققته عملية الانتقال الديمقراطي من نجاح مقبول

 نفّذ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع معًا، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، انقلابًا أطاح المدنيين من السلطة الانتقالية التي بدأت من العسكر وقادة الحركة الاحتجاجية ضدّ الرئيس السابق عمر البشير بعد سقوطه عام 2019. ولكن لكلّ منهما شبكة العلاقات والحلفاء التي كوّناها منذ سنوات خلال توليهما مسؤوليات مختلفة حتى في عهد البشير، ولكلّ منهما موارده المالية الخاصة.
أشارت صحيفة تلغراف البريطانية في تقارير لها عن اتفاق وُقّع بين روسيا والسودان عام 2017 يقضي بإنشاء قاعدة عسكرية روسية بحرية على البحر الأحمر، في ميناء بورتسودان، كما وسُمح لشركة فاغنر الروسية بالتعدين وتصدير الذهب إلى روسيا. ويملك حميدتي ورقة اقتصادية قوية، إذ تدير قواته، وفق مركز أبحاث المجلس الأوروبي حول العلاقات الخارجية، مناجم ذهب عديدة في البلاد. وتؤكد الولايات المتحدة أن قوات فاغنر هي الذراع المسلح لروسيا في دول أفريقية عديدة، وتعمل في السودان الذي توجد فيه منذ عام 2017، مع قوات الدعم السريع في تلك المناجم للاستحواذ على مورادها. و"كانت قوات فاغنر تعمل في السودان بعيدًا عن الأضواء لأن حاجة البلاد إلى مساعدة أمنية كانت أقلّ مما هي عليه في مالي أو جمهورية أفريقيا الوسطى"، حسب الباحث في معهد العلوم السياسية في باريس رولان مارشال.
وكما الروسي، زاد اهتمام الأميركي، بالشأن السوداني بعد انهيار نظام البشير، حيث تفاءلت واشنطن بما حققته عملية الانتقال الديمقراطي من نجاح مقبول. وسرعان ما انقلب هذا التفاؤل تشاؤمًا مع التحوّل إلى نظام حكم عسكري له علاقات وثيقة بروسيا والصين، ويعادي الدول الغربية التي اعتبرته نظامًا مارقًا، بدل أن يكون نظامًا جديدًا يلعب فيه المدنيون والليبراليون دورًا مركزيًا، تتمتّع فيه واشنطن بنفوذٍ كثير. ويقوم وزير الخارجية الأميركي، توني بلينكن، بدور دبلوماسي كبير في السعي نحو وقف إطلاق النار، وقد تحدّث مع نظرائه في السعودية والإمارات وعدة دول أوروبية، لتنسيق الجهود الإقليمية والدولية لوقف القتال بين الأطراف السودانية، والسعي إلى إعادة السودان إلى حكومة مدنية.

العالم الذي يعيش على وقع أصواتٍ باتت تعلو مناديةً بنظام جديد مرتكزٍ على أطراف دولية، لم يولد بعد

فتّش عن السودان الحلقة الأبرز في دول منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، فالأهمية برزت عند الأميركي بعد تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا في 1998، حيث تخشى واشنطن أن يؤدّي انتشار عدم الاستقرار في تلك المنطقة إلى تهديد مصالحها. لهذا ترى التقارير الصادرة عن مراكز البحث الاستراتيجي الأميركي استقرار السودان بوابة لاستقرار المنطقة. من هنا، تركّزت جهودها على تخفيف حدّة الأزمات الإنسانية والفقر المتوطّن ومكافحة الإرهاب وعدم الاستقرار الإقليمي، وظهر ذلك في اهتمامها الكبير بالحرب الأهلية في إثيوبيا ونزاع سدّ النهضة، وأخيرًا في قضية تحول الحكم في السودان.
وعندما تفتّش عن السودان لا تنسَ أن ترى لمعة ذهبه، إذ يصنّف هذا البلد في المرتبة الثالثة من حيث احتواء أرضه كميات كبيرة من الذهب. المعدن الذي تسارع روسيا والصين للاستحواذ عليه، لدعم العملة البديلة التي ستزيح الدولار عن عرش الهيمنة العالمية. لهذا، لن تهدأ الحرب في السودان في المدى المنظور، بل هي قابلة للاشتعال أكثر، سيما وأن الضبابية لم تزل مسيطرة على الرؤية الدولية، فالحرب في أوكرانيا لم تحسم لصالح أحد، والتوتر لم يزل سيّد الموقف في بحر الصين الجنوبي وعلى جزيرة تايوان، ومنطقة الشرق الأوسط تسير فيها التسويات على نار حامية. 
العالم الذي يعيش على وقع أصواتٍ باتت تعلو مناديةً بنظام جديد مرتكزٍ على أطراف دولية، لم يولد بعد. لهذا، ستؤجّج الدول الدافعة نحو "عالم جديد" الصراعات، وتعمل على زعزعة ثقة الولايات المتحدة بلعب دور ضابط الإيقاع، والتي بدورها ستضع كل إمكاناتها لتحافظ على مصالحها القومية، والسودان مثال حديث على صراع الأقطاب.