غوغائية بذريعة الوطنية
ثمّة علاقة جدلية غريبة عجيبة بين الغلاة من مناصري الديكتاتوريات والأحذية، لا بد من إخضاعها لتحليل نفسي عميق، للوقوف على دلالاتها، فهم لا ينفكّون يستخدمونها مفردةً مبتكرةً! حاضرة دائماً في جدالهم السياسي، باعتبارها قرينةً دامغةً على الانتماء إلى نظامٍ قتل وهجّر وشرّد وسجن نصف شعبه، يلوذون بالأحذية، حين تخلو جعبتهم من الشعارات الجوفاء التي فقدت مصداقيتها أمام الواقع العربي البائس الغارق في الهزيمة والمذلّة والهوان، وحين لا تسعفهم الألفاظ العنيفة المعادية لحق الشعوب في الحرية والكرامة، ينهالون على الأحذية تقبيلاً في مشاهد مبتذلة، تحطّ من كرامتهم بالدرجة الأولى، يقبلونها بكلّ التذلّل الممكن أمام الشاشات. يضعون البسطار العسكري، بغضّ النظر عن أصله، روسياً كان أو إيرانياً، فوق رؤوسهم، واهمين أنّهم يعيشون لحظة فخر واعتزاز.
قبل سنوات، طلعت علينا إعلامية تونسية، معروفه بتقلباتها بين المحطات الفضائية التي تدفع أكثر، وهي تقبّل البسطار العسكري، لكونه رمز الخلاص بالنسبة إليها، بعدما أشادت بـ"أخيها بشّار" و"سماحة السيد حامي الحمى ومحرّر القدس" بطبيعة الحال. كررت ممثلة سورية من الرعيل الأول، ينقصها كثير من الوقار، المشهد المبتذل ذاته، وقد جوّدت وتفوّقت على الإعلامية التونسية تلك، حين وضعت البسطار العسكري فوق رأسها، في أثناء مقابلة تلفزيونية غير عفوية، إمعاناً في الخضوع والامتهان واستعراض الوطنية الكاذبة.
وفي استخدام لا يقلّ عبقرية! خرجت ممثلة أردنية معروفة بموالاتها طاغية دمشق، تتوهم ومجموعتها احتكار موقف رفض التطبيع مع العدو الصهيوني على سبيل الاستثناء، غافلة عن أنّ الشعب الأردني برمته، رافض بشكل جذري وقطعي وحاسم، كلّ أشكال التطبيع مع المحتل الغاشم، بدليل الهجمة الكبيرة غير المسبوقة على فيلم "أميرة" الذي عرض في مهرجانات في مصر وتونس والأردن، وتناول قضية نطف الأسرى المحرّرة من سجون الاحتلال. لم يتسنّ لكثيرين منا مشاهدة الفيلم. ومع ذلك، هاجمنا الفكرة لأنّها تمسّ الأسرى الأبطال، وقدرتهم على كسر إرادة المحتل من خلف القضبان (ذلك حديث آخر يمكن الخوض فيه عند مشاهدة الفيلم).
انهالت التعليقات المندّدة بالفيلم، وتنوعت أساليب المعلقين بين من ينادي بالتروّي إلى حين مشاهدة العمل والاستماع إلى الرأي الآخر، ومهاجم شرس لم يوفر مصطلحاً بذيئاً لم يستخدمه، ومن هؤلاء الممثلة المعروفة، وهي المنسجمة مع خطاب الأحذية إياه كما يبدو، فقد طالبت، بكلّ إنسانية وتحضّر (!) بضرب أسرة العمل من مخرج وممثلين وفنيين بالأحذية حتى الموت، مثلما حدث مع شجرة الدر ملكة مصر في العصر المملوكي، حين أمرت زوجة عز الدين أيبك جواريها بضربها بالقباقيب على رأسها حتى الموت، ثم ألقوا بها من فوق سور القلعة. جرى ذلك في سياق صراع سياسي دموي عنيف، لذا قد نجد للحكاية، على الرغم من وحشيتها، مبرّراً ما ضمن ملابسات تلك المرحلة. أما أن تحرّض تلك الممثلة علناً (وعلى عينك يا تاجر) الجماهير الغاضبة على ارتكاب فعلٍ عنيفٍ كهذا، فهو أمر مرفوض تماماً، وينبغي أن يعرّضها للمساءلة القانونية، إذ مهما بلغت جسامة الإثم الذي اقترفته أسرة فيلم "أميرة"، ثمة طرق حضارية ومدنية، مثل المقاطعة أو اللجوء إلى القضاء ومحاسبتهم بحسب نصوص القانون في حال ثبوت الجريمة النكراء، على أن يكون ذلك بعد إعادة قراءة رواية العظيم غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، لأنّها تدور في الفلك نفسه، أما حديث الأحذية الغوغائي فليحتفظ به أولئك، لأنّه سيلزمهم حتماً في حفلات تمجيد أسيادهم.