غورباتشوف بطلاً وضحية

11 سبتمبر 2022

صورة غورباتشوف على ضريحه في موسكو (6/9/2022/فرانس برس)

+ الخط -

على الرغم من أنني لم أحظ بفرصة إلقاء النظرة الأخيرة على جثمان ميخائيل غورباتشوف، آخر أباطرة السوفييت، غير أن في وسعي الرهان بأن البقعة التي كانت تميّز سيماءه، وتلفت الانتباه إليه، كانت قد تبخّرت تماماً قبل موته؛ وبعد رحيله عن العرش؛ لأسباب شتّى، أحدها أنها كانت بقعة سياسية اقترنت بخاتمة مرحلة إمبراطورية بأكملها، كان بطلها غورباتشوف، وضحيتها غورباتشوف أيضاً.

ربما كانت مفارقة فعلاً، غير أنّ التراجيديا السوفييتية أبت إلّا أن تجعل من هذا الرجل بطلاً وضحية، في الوقت ذاته، ومنتصراً ومهزوماً، في زمنين متقاربين. ولا يستقيم الأمر على هذا النحو، إلا عندما يتعلق بمصائر إمبراطورياتٍ لا يغرب عنها الثلج كالاتحاد السوفييتي، الذي لم نحظ بإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه؛ لأنّه رحل أسرع مما توقع أشدّ المتشائمين فينا.

عموماً، أصدّق أنّ غورباتشوف كان يحمل نيات إصلاحية صادقة، عبّر عنها في "البيريسترويكا" التي كان يتبنّاها منذ تسلم رئاسة الحزب الشيوعي السوفييتي بين عامي 1985 و1991، ثم حاول ترجمتها إلى تطبيق واقعي؛ أصدّقه لأنّه كان يمتلك شجاعة الاعتراف بتغلغل الصدأ في مفاصل الإمبراطورية الحمراء، وكان يعرف مبلغ الجمود الذي ضرب أصقاعها، بفضل نزعة الحكم الشمولي التي كان يمثلها الحزب الواحد الأحد، ويدرك من ثمّ ضرورة التحرّك لإنقاذ الإمبراطورية من انهيار حتميّ مقبل.

آنذاك، كان غورباتشوف "بطلاً"، و"منقذاً"، وتحديداً عندما تلقّف المتربّصون بالاتحاد السوفييتي نياته، وعرفوا توجهاته، فخلعوا عليه رداء البطولة، وجعلوا منه قدّيساً، وزعيماً "صالحاً" ينبغي التعامل معه، ودعمه وإسناده، وروّجت له صورة بيضاء في الإعلام الغربي. كان مطلوباً منه فقط أن يبدأ تنفيذ خططه الإصلاحية، التي تعني إعادة هيكلة أجهزة الحزب والدولة، أما الباقي فيتكفّل به الغرب الذي كان يعدّ هو الآخر خططه المبيّتة لتفكيك الاتحاد السوفييتي، عبر أدوات مشغولٍ عليها، ومبرمجة لمثل هذا اليوم، وفي مقدمتها بالطبع بوريس يلتسين، الذي كان ينتظر على أبرد من ثلج موسكو، فرصته المواتية.

وقد جاءت الفرصة، بالفعل، عقب الانقلاب الفاشل الذي قاده رهط جنرالاتٍ قدامى، ممّن أزعجتهم توجهات غورباتشوف، وخططه التي رأوا فيها تحطيماً لإمبراطوريةٍ عظمى حفرت مكانتها في حربٍ عالميةٍ كبرى ألحقت فيها الهزيمة بالنازية، وأخرى داخلية لا تقل هولاً، دفعت فيها الشعوب السوفييتية الملايين من أبنائها، إبادة وتهجيراً ومعتقلاتٍ على أيدي أباطرة يحاكمون الناس بالنيات، ويترجمون كوابيسهم التي يظنونها أحلاماً قبل أن يطلع عليهم الصباح، على غرار ستالين.

كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة تلك هي الحدّ الفاصل بين غورباتشوف البطل وغورباتشوف الضحية، فقد تسارعت الأحداث بعدها لتتجاوزه، وكان عليه أن يلعب دوراً أخيراً فقط، مدفوعاً إليه، ومجبراً عليه، وذلك بعد إطلاقه من معقل إقامته الجبرية الذي زجّه فيه الانقلابيون، في جزيرة القرم، فترأس غورباتشوف اجتماعاً صوريّاً حضره رؤساء دول الاتحاد السوفييتي، وأعلن فيه تفكيك الاتحاد، على الرغم من أنّه حاول ثني الرؤساء عن هذا التوجّه، لكنّهم أبوا، ولم يكن يملك سلطة المنع التي كان يملكها سابقوه من أمثال ليونيد بريجينيف، وخروتشوف، وستالين.

ثم غاب غورباتشوف، أو غُيّب، لا فرق، فقد انتهى دورُه تماماً، وأصبح ضحية البريسترويكا ذاتها التي نادى بها، والتي تحوّلت من إصلاح إلى هدم غير منظم، بفضل خطط الغرب الماكرة، التي لم يتنبّه لها إلا متأخراً، من جهة، ولأنّ الإصلاح المقلوب الذي يبدأ من رأس الهرم، لا من قاعدته مصيره الإخفاق المحتّم.

وفي آخر المطاف، مات غورباتشوف قبل أن يموت، مات في اللحظة التي انهارت فيها إمبراطوريته التي لم تجد بواكي لها، غير "المحاربين القدامى"، وبعض المنتفعين من زعماء دول العالم الثالث، الذين يرفعون العلم "الأحمر" في غرف نومهم.

مات غورباتشوف ولم يحضر جنازته أحد من الذين نادوا به "بطلاً"، ولم يُلقِ عليه النظرة الأخيرة أحد غير الذباب الأزرق.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.