غوتيريس يقرّع الزعماء العرب
إذا كان ثمّة ما هو لافتٌ في القمّة العربية التي عُقدت في المنامة، فهو خطاب أُلقي وآخر أَحجم أو سُكِت عنه، لهذا السبب أو ذاك. كان الخطاب الأول استثنائياً في المقاييس كلّها، وألقاه الأمين العام لهيئة الأمم المتّحدة، أنطونيو غوتيريس، أمّا الثاني، فللرئيس السوري بشّار الأسد، الذي سجّلت قمّة المنامة أوّل سابقة له بالمشاركة من دون الخطابة، وهو الذي يتشارك مع الرئيس الليبي، الراحل معمّر القذّافي، في الإفراط في الخطابة وتقريع الحضور، وهم ملوك ورؤساء دول، وتثقيفهم بما يُفترض أنّهم لا يلمّون به، ولا يعرفونه.
أُثير لغطٌ، ولكنْ قليل، عن عدم إلقاء الأسد كلمةً في القمّة، التي حدّدت ثلاث دقائق لكلّ مُتحدّث، منها أنّه طُلب منه بتهذيب ألا يفعل، وأنّه ربّما وجد أنّ المدّة المسموح بها أقصر مما يفترض أن يتحدّث فيه ويُسهب، ولكنّ وكالة الأنباء السورية الحكومية (سانا) قطعت مِثْلَ جهيزة "قول كلّ خطيب"، فالرئيس لم يجد ضرورة في تكرار موقفه من المُستجدّات التي تشهدها المنطقة، فما معنى أيّ خطاب جديد، خاصّة أنّ ما تمرّ فيه المنطقة العربية، بحسب "سانا"، يُؤكّد أنّ ما طرحه "السيد الرئيس"، عبر قمم عديدة سابقة، أثبت أنّه الرؤية الوحيدة القادرة على تحقيق المصالح العربية.
إذا كان هذا شأن الأسد، فالأمر مختلفٌ بالنسبة لغوتيريس، فالمُستجدّات التي تحدُث في المنطقة توجب عليه الخطاب، بل فعل ما تعوّد عليه الأسد، وهو تقريع الحضور، وإنْ اختلفت الظروف والدوافع، فأمين عام الأمم المتّحدة، الذي قطع مع إرث "الشعور بالقلق"، الذي كان يزداد أو يقلّ حدّة، بحسب الأحداث في العالم، لدى سلفه الكوري الجنوبي بان كي مون، تقدّم خطوات عديدة إلى الأمام لاستحقاق أيّ أمين عام للأمم المتّحدة منصبه، والارتقاء إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية التي يمليها عليه ترؤّسه أرفع مؤسّسة أممية في العالم، فأصبح عدواً مُعلناً لإسرائيل. والحال هذه، ربّما وجد الرجل أنّ مسؤوليّته الأخلاقية تُملي عليه، أيضاً، أن يبادر القادة العرب بما لا يسرّهم، وأن يذكّرهم بالمسؤولية تجاه شعوبهم وتاريخهم، بعد تخلّيهم عنها خلال الأشهر الثقيلة الماضية، التي مرّت على قطاع غزّة، حيث ثمّة دمٌ غزيرٌ سُفك، وجرائم حرب محتملة ارتُكبت في المنطقة نفسها، التي يحكم فيها الزعماء العرب، ويحضرون الاستعراضات العسكرية، ويعقدون القمم، لكن من دون أن يضطلعوا بالمسؤولية المفترضة عن تلك المنطقة الصغيرة، التي تُباد حرفياً لا مجازاً.
ذكّر غوتيريس الزعماء العرب بأنّه من مواليد لشبونة، التي كانت جزءاً من الأندلس، وبأنّ قرطبة كانت آنذاك مركز الثقافة والحضارة في شبه الجزيرة الإيبيرية، كما كانت بغداد مركز الحضارة في العالم كلّه، من حدود الصين إلى سواحل الأطلسي، وأنّه رغم تغيّر الظروف والأحوال في المنطقة العربية، من مثل خضوعها للاستعمار، و"إرث خطوط الرمال"، إلا أنّ ذلك تغيّر، فهناك إمكانات هائلة في هذه المنطقة، وموارد وثقافة وبشر، لكنّ ما تفتقر إليه هو الاتحاد، لتصبح ذات شأن في العالم.
أيُّ تشخيص أوضح من هذا لحال العرب وانحدارهم؟ وأيُّ تقريع أقسى، وإنْ اكتسى لبوسَ النصح لزعماء المنطقة؟ ... لنقل، إنّها شجاعة استثنائية من الرجل، الذي يخوض حرباً شرسة ضدّ إسرائيل، لإسناده غزّة، وإنصاف شعبها العظيم، الذي يتعرّض لأبشع حروب الإبادة في هذا القرن، من دون أن يهرع الحكّام العرب الذين يعقدون القمم ويدبّجون التوصيات إلى وقف إسرائيل عند حدّها، أو على الأقلّ، تخفيض العلاقات الدبلوماسية معها، بعد أن فشلوا حتّى في إجبارها على الاعتراف بهم جمعياتٍ خيريةً لإدخال المساعدات الإنسانية.
فعل غوتيريس ما لم يفعله الحكّام العرب كلّهم. زار الجانب المصري من معبر رفح، ومن هناك حمّل إسرائيل المسؤولية عن تحويل قطاع غزّة مقبرةً للأطفال، ودعا إلى تفعيل المادة 99 من الميثاق التأسيسي للأمم المتّحدة، الذي يعتبر عدوان إسرائيل تهديداً للأمن والسلم الدولييْن. ولم يتراجع قيد أنملة عن التنديد بإسرائيل، والحثّ على معاقبتها رغم مطالبتها بطرده من منصبه، بينما ظلّ القادة العرب على جاري عهدهم ودأبهم، يصدّرون البيانات، لكن بما لا يغضب الولايات المتّحدة أو يثير تحفّظاً، مُجرّد تحفظٍ، من شركائهم في الحلف الإبراهيمي.
لا بد من تقريعهم على هذا، وهو ما فعله الرجل.