غزّة والصين وتغيير النظام العالمي
لم يعد النمو الاقتصادي الأولوية الوحيدة للصين كما كان منذ 1978. بات حلم التحول إلى قطب عالمي يكافئ الولايات المتحدة أولوية بكين الأساسية، على أن يكون الاقتصاد مفتاحها للنفوذ الدولي. هكذا تحول الاقتصاد من غاية إلى وسيلة، منذ وصل شي جين بينغ إلى زعامة البلاد قبل نحو 12 عاماً. كل شيء يوحي بأنها كانت خطة صينية مبيّتة عندما أطلق الزعيم الأسبق دينغ خطة الإصلاح والانفتاح في أواخر السبعينيات، فتحولت الصين من بلاد فقيرة إلى صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، قبل سنتين فقط من بلوغ شي موقعه. الصينيون يبنون على خطوات من سبقهم، ولا يهدمونها.
اليوم، مع الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزّة، لا تتحدث الصين كثيراً، وهذا يتناقض مع سعيها إلى أن تكون قطباً عالمياً مؤثراً، في وقت ينشغل العالم بهذه الحرب، وتقرّر محكمة العدل الدولية اختصاصها بالنظر بما فيها من جرائم. فهل يجوز أن تغيب الدولة الساعية إلى زعامة العالم في الملمّات؟!
لا. لا يجوز، لكن الحكمة الصينية "لو حكمت نفسك تستطيع أن تحكم العالم" ربما تفسر سلوك الصين اليوم، فهي لا تستطيع أن تتدخّل في وساطة بين الفلسطينيين وإسرائيل بسبب عدم ترحيب الأخيرة التي تفضل "وسيطاً" منحازاً لمصلحتها هو الولايات المتحدة. وأيضاً لن تكون طرفاً يهدد واشنطن وإسرائيل دفاعاً عن الفلسطينيين على طريقة الاتحاد السوفييتي في زمن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كما يطمح بعضٌ منا، لأن ذلك يتعارض مع مصالح الصين الاستراتيجية التي تبشر بالأمن العالمي على أساس الحلول الوسط، التي تسمى أحياناً قاعدة الربح المشترك، في السياسة كما في التجارة.
بينما تنشغل الولايات المتحدة بتبرير الحرب على غزّة وقتل المدنيين الفلسطينيين، تنظر بكين إلى ما أصاب صورة واشنطن من أضرار وتبارك توريطها في حرب يمكن أن تتسع
الأهم أن الصين لا تطرح نفسها اليوم قطباً عالمياً قادراً على كبح جماح أميركا وحلفائها، أو نصيراً لحركات التحرّر الوطني يتصدى لقوى الاحتلال والإمبريالية، لو فعلت ذلك، لأفسدت علاقاتها التجارية مع العالم التي هي مفتاحها للنفوذ الدولي، ولغامرت بصدام واسع مع واشنطن عملت جاهدة على أن تتجنبه خلال السنوات الأخيرة. ببساطة: الصين لن تفعل في الحاضر ما قد يؤثر على طموحها للمستقبل. وهو أمر يجب أن يكون من فائض القول ولا داعي لشرحه، لولا أننا تعوّدنا في بلادنا خلط السياسة بالعاطفة.
ومن قبيل تلك العاطفة، الحديث عن علاقات عضوية بين الصين وإسرائيل، بسبب وجود علاقات تجارية واقتصادية بينهما، بما فيها العلاقات العسكرية - التجارية التي ابتاعت من خلالها الصين سراً تكنولوجيا أميركية ساعدتها في تطوير صناعتها العسكرية، ثم الذهاب إلى أنها السبب في "صمت الصين". تلك افتراضات تعتقد أن البراغماتية التي اتبعتها الصين منذ السبعينيات ضد الأخلاق السياسية بالضرورة. ليس الأمر كذلك؛ فالصين اتبعت البراغماتية مع إسرائيل، وحافظت على دعم حق الشعب الفلسطيني في التخلص من الاحتلال وإقامة دولته المستقلة، وهو موقف أخلاقي بيّن، وليس من الحكمة تقويل التاريخ ما ليس فيه.
لكن صمت الصين لا يعني أنها تقف متفرجة. في اليوم الذي نقلت وكالة رويترز عن "مصادر مطلعة" خبراً مفاده بأن بكين طلبت من طهران وقف هجمات حلفائها الحوثيين على السفن المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر، أعلن الحوثيون قصف سفينة بريطانية واشتعال النيران فيها. لم تطلب بكين إذن، ولو فعلت لاستجابت طهران التي تعرف قيمة علاقتها الاستراتيجية مع الصين. وما دامت الصين لم تفعل، وهي صاحبة أكبر حصّة في التجارة العالمية، تتجاوز قيمتها 3,5 تريليونات دولار سنوياً، خمسها تقريباً تعبر البحر الأحمر نحو أوروبا، فإنها تعطي للنتائج السياسية المتعلقة بحرب غزّة قيمة أكبر من الأضرار الاقتصادية المتمثلة بتأخير تسليم البضائع المنقولة بحراً بسبب اضطرار السفن إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، عوضاً عن عبور البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب.
الصين لن تفعل في الحاضر ما قد يؤثر على طموحها للمستقبل
وأهم تلك النتائج السياسية إشغال الولايات المتحدة بعيداً عن الصين عقب سنتين من حشد الولايات المتحدة أساطيلها في الشرق الأقصى والمحيط الهادئ، وعقدها اتفاقية عسكرية مع اليابان وكوريا الجنوبية، تعرف بكين أنها موجهة ضدها في المقام الأول، ترجمة لاستراتيجية "الردع المتكامل" تجاه الصين التي تتبعها إدارة جو بايدن باعتبارها مسألة أمن قومي أميركي. وهكذا، بينما تنشغل الولايات المتحدة بتبرير الحرب على غزة وقتل المدنيين الفلسطينيين بحجة أنّ من حق الاحتلال الإسرائيلي الدفاع عن نفسه، تنظر بكين إلى ما أصاب صورة واشنطن من أضرار حتى لدى حلفائها التقليديين، وتبارك توريطها في حرب يمكن أن تتسع من حيث المكان إذا تواصلت لشهور مقبلة، ومن حيث الزمان لأنها ستجر عليها غضباً دولياً متزايداً وتراجعاً للثقة بها مع الأيام باعتبارها سبباً للفوضى في العالم، بينما تطل الصين بين فينة وأخرى باعتبارها حمامة السلام التي تبشر بوقف الحرب وطرح الحلول السلمية، حتى وإن كانت حبراً على ورق.
في المحصلة، لا تختبئ الصين في شأن حرب غزّة فحسب، بل إنها تبرع في سياسة الاختباء، ذلك أنها تجدها أفضل وسيلة لجعل الحرب على غزة حجراً إضافياً في مدماك إقناع العالم بضرورة تغيير النظام العالمي أحادي القطبية الذي تتزعمه الولايات المتحدة، إلى متعدد الأقطاب يكون للصين حصّة أساسية فيه، شرطاً لبناء عالم آمن ومزدهر في المستقبل، لأن أحادية القطبية هي أصل الشرور.