غزّة كفيلم وثائقي لا يكذب أبداً

30 نوفمبر 2023

غزّيون يسيرون بين مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في حجر الديك جنوب غزّة (28/11/2023/الأناضول)

+ الخط -

الفيلم الوثائقي لا يكذب أبدا كالفيلم الروائي، ولا يتجمّل لأحد، أو غايته هي ذلك، وفنّيته من داخل صدقه من دون رتوش أو ديكور مصنوع من داخل الاستديو، ولا مصنوع من بنات خيال المخرج أو كاتب "السكريبت"، ولا يمشي وراء ساسة المنطقة، ولا يقبل تلك الضغوط التي تمارس عليه من القوى الإقليمية التي تجاوره في التصوير، لأنه يتخطّى دلع البطلة وميوعتها، ويدوس فوق دنجوانية البطل وعدد غزواته النسائية وشروطه على الشركة المنتجة. الفيلم الوثائقي مستقيم، كاستقامة الدماء تماما حينما تكون هي عربون المحبة ما بينها وبين شعبها.

لا تعتمد غزّة على الإعلانات ولا على سرقة "اللقطة" مقدّمة انتخابية، لأن غزّة منتخبَة من دم الأبناء مباشرة. حتى الأحصنة حينما تقتل أمام المستشفيات فهي تكمل صور هذا الفيلم الصادق جدا، فيلم بلمحات ناسها وعيونهم، فيلم لا يغنّي لأحد سوى عذابات غزّة نفسها وقرارها وإرادتها من دون أخذ أي أوامر من الشركات المنتجة أو لعاب دور العرض من أجل اللقطات الساخنة للبطلة على بلاجات شرم الشيخ أو البحر الأسود أو ميناء دبي.

غزّة تحمّض فيلمها بدماء ناسها وأهلها، ولا تنتظر المنتج في شيراتون أو سميراميس أو فندق المطار. غزّة تشبه فيلم غزّة تماما، فيلم يشبه عيون أطفاله وصبيانها وشبابها وبناتها وشيوخها ونسائها وكهولتها وشيوخها وعجائزها المفوّهات حتى وهنّ على حافةّ الموت.

الكاميرا لا تكذب حينما تأخذ الزاوية الصادقة. يكذب الساسة حتى وهم وسط اللّقطة، حتى وهم في كامل هندامهم داخل المؤتمر، حتى وهم يرطنون باللغات الأجنبية بجوار المراسلين الأجانب، والغرب يتثنّى على رؤيتهم وكلامهم ومواقفهم الرمادية، والتي لا يفضح ألوانها الحقيقية إلا الغرب نفسه في مذكّرات زعمائه بعد حين.

الدماء في الأفلام الروائية مصنوعةٌ ومدلوقةٌ على جراح البطل، سواء أكان الجرح في الوجه أم في البطن، جرح غزّة في الكبد، وجرح الكبد لا يعرف مكانه المخرج ولا المنتج ولا الجهة التي موّلت. جرح غزّة في الكبد، والكبد هو الذي نال الطعنة، بلا عروض في دور العرض ولا إعلانات مدفوعة الأجر مقدّما قبل التصوير، أو العرض في رمضان وقبل إضافة أطنان الأكاذيب المصنوعة بسماجة من كتّاب السيناريو والزعماء والكذّابين في دوّار العُمدة، عرض بسيط وصادق لفيلم وثائقي، لا يستعين أبدا بممثلات الصف الأول ولا بالمطربة شيرين أو محمد رمضان ... إلخ. عرض ترى فيه هناك صبيا يلتقط "ريموت" تلفزيون بيتهم من تحت ركام البيت الذي كان يسكنه يوما وجرت إزالته، أو هذا الصبي الذي يحكي عن طوابق البيوت التي انهارت، من غير أن يغمز له المعدّ أو المخرج من بعيد، كما يحدُث في الاستديو كي يغيّر من طعم كلامه ودموعه، أو يقطع عليه الصوت، أو يغيّر له "الترنج" القديم ويستبدله بآخر من الاستديو ويعطيه علما يرفرف.

عرض غزّة بسيط وصادق، كهل مثلا يحمل معه القليل من الأعشاب الجافّة كي يشعلها ليلا من برد الشتاء، أو ذلك الشاب الذي يحمل لوحين صغيرين من الخشب أو عربات الكارو وفوقها أسمال البيوت التي انهدمت، وتم التقاط بقايا البيت للانتفاع بها، ولا حاجة لمخرجها، مخرج فيلم غزّة الوثائقي، إلى الاستعانة بالراحلة نيللي مظلوم فتترك "ملابس البالية" وتتوجّه مثلا إلى محافظة البحر الأحمر بملابس البحر، كي تصور فيلما مع إسماعيل ياسين أو شرفنطح أو تحية كاريوكا، ولا حاجة لأن تترك ملابسها البالية كي ترقص أمام الملك، ولا تنافس تحيّة في الرقص أبدا.

غزّة من صنع دماء قدّمت الشهادة وفضلتها على وجاهة المؤتمر، وقدّمت العرض البسيط على هامش المؤتمر على جوائز هوليوود وكان والريفيرا وجوائز شرم الشيخ الضخمة كي يتقاعد عجائز المخرجين داخل مقاهيهم في الزمالك أو المهندسين، غزّة فيلم بسيط الكلفة، ولكنه باهظ الثمن من ناحية الإرادة والاختيار والموت برأس مرفوع عاليا فوق كل أعلام الوطن من المحيط إلى الخليج.

غزّة هي الأكباد حينما تجود، وليست الأصابع حينما تعطي وتتباهى أمام العيون بالعطاء أمام الكاميرات، غزّة هي أكباد الأنقياء منّا حينما تعطي وتغيظ بالعطاء كراهية الحضارة التي تحبّ الأعناق مذلولة للعطف.

غزّة خرجت من دائرة العطف، وصنعت بالشهادة فيلما لم نر بعد أعاجيبه، لأن الكاميرات الكاذبة كانت هناك في المؤتمر مع التصريحات الرمادية دائما، والتي لا تُشبه لون الدم أبدا، لا من قريب ولا من بعيد.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري