عودة محمد كامل الخطيب
العودة الأولى للأديب والمفكر التنويري السوري، محمد كامل الخطيب، إلى التأليف، بعد توقّف دام 11 سنة، كانت عبر كتابه "بورتريهات" الذي نوّه به صاحب هذه المقالة في "العربي الجديد (23/ 10/ 2022)، والثانية بكتاب "جيوبوليتيكيات... يوميات الزمان والمكان والإنسان" (منشورات 0021، بيروت، 2023) في 328 صفحة. يمكن القول، بداية، إن كاتباً اشتغل في الإبداع ما يزيد عن نصف قرن لم يكن ليقدر على التوقف تماماً، حتى ولو بفعل الإحباط الذي يصيب مثقفاً يرى بلاده تُدَمَّر، ودماءَ شعبه تسيل، بعدما بنى كل أحلامه على تقدّمها وازدهارها، فلجأ إلى تدوين اليوميات. كان هذا اللون الأدبي، كما يشير في مقدّمة الكتاب، متوفراً في مختلف الثقافات، والعصور، ومن المدوّنين المشهورين الفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس، والدمشقي البديري الحلاق الذي دوّن "أحداث دمشق اليومية".
يؤكّد الخطيب، في أحد فصول كتابه، أنه ينظر إلى الأحداث القديمة، والحديثة، من وجهة نظر الشعوب، بل والأفراد الذين لا يريدون سوى أن يعيشوا حياتهم اليومية العابرة على هذه الأرض، بسلام، يُنجزون أعمالهم، يربّون أسرهم، يقضون عطلهم الأسبوعية مع عائلاتهم وأصدقائهم، يذهبون إلى السينما، والمعابد، والآثار، والمسابح، والغابات، والمراقص، وهم آمنون ألا تحصدهم السيوف، أو طلقات البنادق، غير مبالين بالجعجعات الكبرى عن العقائد، والأفكار، والأديان، والأيديولوجيات، والمذاهب. ولذلك ينزف قلبه دماً خلف تحليلاته وكتاباته التي قد تبدو باردة، أو محايدة، أو ساخرة.
في صباه، وخلال سعيه إلى تقوية لغته الإنكليزية، يدعو سائحة ألمانية إلى فنجان قهوة، بمقهى بحري. خلال الجلسة تلمح المرأة سيارة مرسيدس متوقّفة أمام المقهى، وبجوارها طنبر قديم، فتشير إليهما بالتتالي، وتقول له: هذا نحن، وهذا أنتم. كانت ملاحظتها مؤلمة بالنسبة إليه، وكأنها الصفعة التي تلقّاها من أحد مدرّسيه في مدينة طرطوس ذات يوم. تدفع الصفعات الكاتب ذا الحساسية العالية للتفكير في كل الأسئلة الكبرى، الصادمة، التي تدور في خلده، مثل فقدان شرقنا الأوسط ميزة الموقع الاستراتيجي الحيوي، بعدما حُوّل طريق الحرير، وتغيّرت، كذلك، المعادلاتُ الأساسية للإقليم، فملالي إيران يحاولون تقديم عرض للمتنفذ العالمي أفضل من تركيا والسعودية اللتيْن انتهى دوراهما مع انتهاء الحرب الباردة مع الشيوعية، وبقيت تركيا متأرجحة بين الشرق والغرب، وباتت إسرائيل بضاعة قديمة مُكْلِفة، وثمّة قومية ناهضة، الكرد. ومن مفارقات تغير المعادلات، أن تنظيم داعش، مثلاً، جعل الإرهاب الإسرائيلي ضد العرب يبدو صغيراً. وتمكّنت الأخت المسلمة، إيران، من جعل المطامع الإسرائيلية في فلسطين وأراضي العرب لا تستحقّ الذكر، فهي لا ترضى بأقلّ مما نصّ عليه الشعار القديم "من الفرات إلى النيل"، سلاحُها الضعف العربي، وهدفُها الاستيلاء على الأرض، والتاريخ، والثقافة، والعقيدة.
من الحكايات التاريخية التي يمكن أن يأخذ منها المرء دروساً، ويشتقّ منها أفكاراً جديدة، أن رئيس وزراء فرنسا كليمنصو، عندما جلس يفاوض الأمير فيصل بن الحسين على مستقبل سورية، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التفت إلى الكولونيل الإنكليزي لورنس الذي كان يرتدي الزي العربي، وقال له: قم، يا كولونيل، ارتد ثياب ضابط إنكليزي، حتى أعرف كيف أتكلم معك، وأما ارتداؤك لباساً عربية فخدعة لا تنطلي عليّ. وبالبناء على فكرة انسجام الشكل مع المضمون، يقول الكاتب: كلما رأيتُ رجلَ دين يتكلم في السياسة، أقول له: اذهب يا أستاذ، يا شيخ، يا أية الله، يا بطريرك، يا حاخام، البس ثياب المليشيا، لكي أفهم عليك أكثر.
لا تتسع هذه الزاوية لكثير من المقتطفات، ولعل الأجدى أن نقدّم لمن لا يعرف فكرة سريعة عن الكاتب، أنه قاص، وروائي، وباحث سياسي، ومؤرّخ تغلب على ما يكتب في السياسة الصياغة الأدبية التي تجعل قراءة أي كتابٍ له غاية في المتعة والفائدة.