عن معجزة سجن جلبوع
قد تكون المرة الأولى، منذ سنوات، التي يلتفّ حولها الشعب الفلسطيني، من مجتمع وفصائل وسلطة، على اعتبار عملية عبور ستة أسرى (ليست هروبا) من سجن جلبوع عملا وطنيا بطوليا دفع الكل الفلسطيني إلى أن يفتخر ويعتز بما فعله هؤلاء الأسرى الذين فضّلوا الشموخ على الرضوخ، والذي يكشف التحام إرادة فولاذية وعقولٍ عبقريةٍ فذّة وصبر لا يوصف، عندما اخترقوا منظومة الأمن والحراسة الخاصة بسجن جلبوع، والتي تعتبر الأكثر صرامة، بدءا من قواعد وجدران إسمنتية مسلّحة مرورا بأسلاك شائكة ومجسّات وحسّاسات إلكترونية وكاميرات تصوير وأبراج مراقبة، وليس انتهاء بدوريات عسكرية وكلاب بوليسية. وتم اختراقها عبر حفر نفق يبدأ من تحت مغسلةٍ في حمام الزنزانة التي يوجد فيها الأسرى الستة، ويمر من تحت السجن بطول عشرات الأمتار، لينتهي خارج السجن، مستخدمين وسائل بسيطة جدا في حفر النفق، سواء أيديهم وأظافرهم وأدوات الطعام والكتابة، والتي كشفت ثغرات الاحتلال وضعفه، وأنه ليس كما يصوّر ذاته، أو كما يحاول بعض المهزومين إظهاره القوي الحصين، حتى وصف مسؤولون إسرائيليون سجن جلبوع بالخزنة الحديدية المحصنة، ليتحوّل فجر الاثنين، 06/09/2021، إلى يوم تاريخي سيبقى محفورا في الذاكرة والوعي الفلسطينيين، ولن ينتهي بانتهاء معركة مطاردتهم الحالية، اعتقالا أو استشهادا، لأن ما حدث من بطولة يشبه المعجزة. خمسة ممن خرجوا من السجن هم من قادة الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، أمير الحركة في السجن، محمود العارضة، محمد العارضة، يعقوب القادري، أيهم كممجي، مناضل انفيعات، وبعضهم معتقلون منذ أكثر من عشرين عاما، ومحكومون بالسجن مدى الحياة، لتنفيذهم عمليات مقاومة ضد الاحتلال، أدت إلى مقتل جنود إسرائيليين. وكان بعضهم قد حاول الهروب مرّات في السنوات السابقة ولم ينجحوا. لكن إرادتهم لم تتراجع، وبقوا مصمّمين على كسر القيود والحواجز، إلى أن نجحوا، هذه المرّة، بعد أن انضم إليهم قائد كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح في منطقة جنين، زكريا الزبيدي.
وصفت ردود الفعل الفلسطينية الواسعة العملية بأنها بطولية، تعيد الكرامة الوطنية للشعب الفلسطيني، وتعزّز ثقته بذاته وقدراته، وتذكّره بزمن النضال الوطني الجميل، والتي تزامنت مع حالة من التراجع الوطني الفلسطيني، بفعل أسبابٍ كثيرة، أهمها الأزمة الداخلية الفلسطينية الناتجة عن الانقسام بين حركتي فتح وحماس، خصوصا أن عملية عبور سجن جلبوع جسّدت الوحدة الوطنية بين حركتي فتح والجهاد الإسلامي، في غضون الانقسام وتعطش الشعب الفلسطيني لسماع أية أخبار مفرحة. ودلّ التفاعل الوطني الكبير مع العملية على أن المجتمع الفلسطيني، خصوصا في الضفة الغربية، بيئة وطنية حاضنة للكفاح الوطني، وأن حدثا صغيرا بدون تخطيط قد يقلب الطاولة في الضفة، ويفجّر مواجهة جديدة، ما يؤكّد فشل مشروع إسرائيل بإفراغ الشعب الفلسطيني من مكونه الوطني الكفاحي، بعد أن بنت سياساتها، في السنوات الأخيرة، على فرضية أنها نجحت في ترويض شريحة كبيرة من الضفة الغربية، واعتقدت أن ذلك قد يمكّنها من تحييد هذه الشريحة، والاستمرار في تهويد الأرض والاستفراد بقطاع غزة.
تهدف إستراتيجية الاعتقال في العقيدة الأمنية الإسرائيلية إلى تحطيم الإنسان الفلسطيني وكسره
وعمّت الفرحة العارمة أوساط الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، بعد نجاح المعتقلين بالعبور وتحطيم القيود والسلاسل والجدران، واجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي الكتابات والتغريدات التي تفتخر بهذا النجاح الباهر. ودعت أصوات كثيرة الله أن يحميهم، وأن يبعد عنهم عيون الاحتلال، وانطلقت مسيرات عفوية ابتهاجا، وتم توزيع الحلوى. وفي مقابل هذا الشعور الفلسطيني المبتهج، عمّت إسرائيل أجواء خوف وكآبة، بعد سماع خبر سجن جلبوع وأسماء المعتقلين، وما قد يشكله الحدث من تداعيات أمنية على الإسرائيليين. وقد تزامن مع بدء احتفالات إسرائيل بعيد رأس السنة العبرية، فأدّت عملية خروج المعتقلين إلى تنكيد أجواء هذا العيد عند المجتمع اليهودي، على عكس ما كان يحدث حين كانت إسرائيل تنكّد حياة ملايين الفلسطينيين في أعيادهم، ليتمكّن اليهود من الاحتفال بعيدهم، وخصوصا في الضفة الغربية والقدس والمدن المختلطة والساحلية، بتشديد للحصار والحواجز ومنع الحركة.
على الرغم من مطاردة آلاف من جنود الجيش الإسرائيلي، والأجهزة الأمنية الأخرى في دولة الاحتلال، بمساعدة الطيران الإسرائيلي والأقمار الصناعية والكاميرات والوسائل الإلكترونية المعتقلين لاعتقالهم أو اغتيالهم، ونصب أكثر من 260 حاجزا عسكريا في المنطقة من الحدود الأردنية الفلسطينية شرقا وحتى البحر الأبيض المتوسط غربا، ومن أقصى حدود لبنان شمالا حتى أقصى جنوب فلسطين، إلا أن المجتمع الاسرائيلي بأكمله يشعر بالقلق والخوف من أن يصبح هدفا لعملياتٍ قد ينفذها هؤلاء المطاردون. وأصبح الإسرائيليون يشعرون بأنهم هم المطاردون من هؤلاء الشبّان الستة، وخصوصا بعد حملة التخويف التي مارستها الماكينة الإعلامية والأمنية الإسرائيلية، ووصف هؤلاء المعتقلين بأنهم من أخطر المطلوبين، وأن من بينهم ثلاثة، تصفهم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ب"كبار القتلة"، ما أدّى إلى انتشار الخوف لدى الإسرائيليين، وتلقي شرطة الاحتلال بلاغات كثيرة عن "تحرّكات مشبوهة".
للعملية الأشبه بالمعجزة تداعياتها الكبيرة، وخصوصاً إذا تبيّن اختراق عناصر أمنية إسرائيلية
تهدف إستراتيجية الاعتقال في العقيدة الأمنية الإسرائيلية إلى تحطيم الإنسان الفلسطيني وكسره، عبر سياسة كي الوعي، والتي تتمثل بتغيير الثقافة الوطنية، وإنتاج ثقافة جديدة تعتبر المقاومة ضد الاحتلال مشروعا مكلفا وغير مجدٍ، ويعود بالخسائر الكبرى على الشعب الفلسطيني، وليس على دولة الاحتلال، وما على الشعب الفلسطيني إلا القبول والتسليم بقرار إسرائيل، وأنه لا توجد أية إمكانية لهزيمة إسرائيل، لا بل إن من يفكر بمواجهتها سيتحطم وسيدفع ثمنا كبيرا، وسيشعر بالندم على ذلك، إلا أن نجاح المعتقلين بكسر القيود واختراق المنظومة الأمنية المعقدة يؤكّد أن إرادة السجين الفلسطيني التي تمثل الإرادة الوطنية الفلسطينية نجحت في كسر إجراءات السجن والسجان ومنظومته الأمنية، وضرب هيبة التفوق الإسرائيلي وروايته. وسيشكّل هذا الإنجاز الكبير الذي جعل الفلسطيني يشعر بالفخر والاعتزاز رسالة أن احتمالية كسر الاحتلال وقهره ممكنة جدا، في حال توفّرت الإرادة الصلبة.
بغض النظر عما ستؤول إليه مطاردة المعتقلين الستة، واحتمالات وصول قوات الاحتلال إليهم، لما تملكه هذه من إمكانات تكنولوجية وبشرية وعسكرية كبيرة، إلا أن نجاحهم بالخروج قد شكّل انتصارا وطنيا مهما في معركة الإرادات والأدمغة بين الاحتلال والشعب الفلسطيني، على الرغم من قدرات إسرائيل الضخمة، باعتراف كل الأوساط السياسية والأمنية من رئيس الحكومة الحالي، نفتالي بينت، القادم من أقصى اليمين الأيديولوجي، وحتى آخر إسرائيلي. وقد شكّل نجاح المعتقلين بالخروج، وما تضمنه من تخطيط وتفكير وصبر وجهد، ضربةً وصفعةً لهيبة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، والتي تباهت بها إسرائيل كثيرا أمام مجتمعها ودول كثيرة. وللعملية الأشبه بالمعجزة تداعياتها الأخرى الكبيرة، وخصوصا إذا تبيّن اختراق عناصر أمنية إسرائيلية، خصوصا أن أغلبية مجنّدي مصلحة السجون الإسرائيلية هم من اليهود الشرقيين، ذوي المستوى العلمي والاقتصادي المتدنّي، وأيضا من الدروز والبدو. وما لذلك من إعادة إثارة الشروخ والأزمات الداخلية في التركيبة الإسرائيلية، ثم التداعيات الخارجية، السياسية والأمنية، في حال تبيّن مساعدة قوى من خارج السجن، وما قد يفتح احتمالات تفجّر الأمور، لتعود القضية الوطنية الفلسطينية برمتها من بوابة الاعتقال والمعتقلين، بعد أن تصرّفت حكومات إسرائيل، في السنوات القليلة الماضية، كأن القضية الفلسطينية قد انتهت، لتُفاجأ دولة الاحتلال بنفق سجن جلبوع الذي سيُدخلها، ومعها كل إمكاناتها العسكرية والأمنية والتكنولوجية، في نفق أعمق وأطول من نفق جلبوع الذي قد يكلّفها الخروج منه وقتا وثمنا باهظين.