عن أزمة إسرائيل من العمليات الفدائية
منذ فترة، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية تتوقع حدوث عمليات في شهر رمضان، لكنها لم تتوقع أن تأتي هذه العمليات بهذه القوة والنوعية وبشكل متواصل وداخل المدن الإسرائيلية، وأن يسقط فيها 11 قتيلاً عدا عن الجرحى، وأن تبدأ العمليات قبل قدوم شهر رمضان بأيام، في وقتٍ انصبت جهود الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومتابعاتها على مدينة القدس المحتلة، خصوصاً البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى، إلّا أنّ العمليات وقعت داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948، ما يشير إلى أنّ مرحلة جديدة ومختلفة قد بدأت، بعدما توهم بعضهم أنّ القضية الفلسطينية تقتصر في بعض مناطق الضفة الغربية فقط وأنّ مناطق العام 1948 تابعة لدولة إسرائيل المسالمة ومن المحرمات تعكير أمنها.
تعدّ العمليات الفدائية أخيراً الأقوى منذ العام 2015، وقد تكون الأقوى منذ نهاية الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2005، خصوصاً التي وقعت في مدن بئر السبع والخضيرة وبني براك، ومناطق أخرى في إسرائيل والضفة الغربية، والتي أوقعت عشرات القتلى والجرحى من الإسرائيليين، بينهم جنود وأفراد شرطة. وشكّلت العمليات عدة مفاجآت نوعية، سواء هوية المنفذين، وبعضهم مواطنون فلسطينيون من قرية حوره في النقب الفلسطيني ومدينة أم الفحم من المثلث الفلسطيني، وجميعهم من حملة الجنسية الإسرائيلية. والمفاجأة الأخرى في انتماء بعضهم إلى "داعش"، وقد تكون هذه المرّة الأولى التي يتبنّى فيها هذا التنظيم عمليات ضد إسرائيل. وعلى الرغم من محاولة إسرائيل الاستفادة من المواقف الدولية والمحلية الرافضة "داعش" وعملياته، فإنّ العمليات ضربت صميم الأمن الفردي الإسرائيلي، وتخشى إسرائيل تكرارها وتصاعدها.
تلقت العمليات الفدائية الفلسطينية الثلاث دعماً شعبياً فلسطينياً لها، وقد يكون سببه تراجع منظومة الردع الإسرائيلية
يضيف انضمام شبان فلسطينيين من أصحاب توجّهات دينية متطرّفة للعمليات ضد إسرائيل مصاعب وأعباء جديدة أمام الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، سواء من فلسطينيي الداخل أو الضفة الغربية والقدس، بعدما كانوا خارج الملاحقة والتعقب الأمني والاستخباراتي الاسرائيلي في الفترة الماضية. وبعد عمليات بئر السبع والخضيرة، شنّت سلطات الاحتلال حملة اعتقالات واستجوابات طاولت مئاتٍ منهم، لأول مرّة، فهؤلاء لم ينخرطوا في الماضي بالعمل المقاوم ضد إسرائيل، ولا حتى بالعمل السياسي أو المؤسساتي العادي. وسيؤدّي اضطرار الاحتلال لمراقبتهم وملاحقتهم إلى وضع مزيد من العقبات والصعوبات أمام الأجهزة الأمنية، سواء المخابرات (الشاباك) أو الشرطة وباقي الأجهزة الأمنية.
ما يزيد من أهمية العمليات التي استهدفت إسرائيل أخيراً أنّها توسّلت وسائل وأشكالاً كفاحية عديدة، سواء الدهس أو الطعن، وحتى استخدام الأسلحة الرشاشة، كما حصل في عملية بني براك، حين أطلق منفذها، ضياء حمارشة (من منطقة جنين في الضفة الغربية) النار من بندقية أدخلها إلى مكان العملية، ما أدّى إلى مقتل خمسة إسرائيليين وإصابة آخرين، واستشهاده لاحقاً في اشتباك مع أفراد شرطة كان قد قتل أحدهم. وأظهرت مشاهد تنفيذه العملية جرأة كبيرة، أعادت صورة الفدائي الفلسطيني في سنوات السبعينيات، ما عمّق من أزمة المنظومة الإسرائيلية التي باتت تخشى تقليد شبان فلسطينيين آخرين الشهيد حمارشة، بعد إعجاب فلسطينيين كثيرين بها، وقد وزع بعضهم الحلوى احتفاء بنجاح العملية الفدائية الشجاعة، ما أضاف رافعة جديدة للعمل النضالي والكفاحي ضد الاحتلال، وأعطى البيئة الفلسطينية المقاومة قوة إضافية أخرى، قد يجري ترجمتها إلى عمليات أخرى ضد أهداف إسرائيلية.
تزامن العمليات الفدائية مع قمة النقب التي جمعت ممثلين عن الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة عربية مطبّعة أدى إلى إحراج إسرائيل وتعميق أزمتها
تلقت العمليات الفدائية الفلسطينية الثلاث دعماً شعبياً فلسطينياً لها، وقد يكون سببه تراجع منظومة الردع الإسرائيلية، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، ثم نجاح العمليات النوعي، بعد غياب هذا الشكل من العمليات منذ فترة طويلة، إضافة إلى تآكل مكانة السلطة الفلسطينية لقناعة فلسطينية شبه جماعية، بفشل ما تسمّى عملية السلام، وتحوّلها إلى عبء كبير على الشعب الفلسطيني.
وتعدّ جولة المواجهة الحالية الأولى منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة المتطرّف نفتالي بينت، أول رئيس حكومة في إسرائيل يرتدي قبّعة المستوطنين، وهو معروف بمواقفه العدوانية المؤمنة بضرورة استخدام الحد الأقصى من القبضة الفولاذية ضد الشعب الفلسطيني. وقد يؤدّي استمرار الجولة الحالية إلى سقوط حكومته التي لم يمضِ على تشكيلها أقل من عام، خصوصاً في ظل تركيبتها الهشّة التي تمثل أغلبية الخريطة الحزبية الإسرائيلية، بما فيها جماعة الحركة الإسلامية (الجناح الجنوبي) بزعامة منصور عبّاس، والذي على الرغم من إداناته المستمرّة عمليات المقاومة الفلسطينية، ترفض أوساط يمينية يهودية متطرّفة وجوده في الحكومة الإسرائيلية. وتحاول أوساط يمينية متطرّفة، خصوصاً أتباع مئير كاهانا، بقيادة عضو الكنيست، إيتمار بن غفير، استغلال الأوضاع الأمنية الحالية، للضغط على نفتالي بينت وحكومته للضغط عليهم لاتخاذ مزيد من الإجراءات التصعيدية ضد الشعب الفلسطيني، لإدخال المنطقة في مواجهة دموية ستؤدي حتماً إلى إسقاط الحكومة التي يعدّونها طعنة لمعسكر اليمين الديني الاستيطاني.
إضافة إلى الفشل الإسرائيلي في منع حدوث تلك العمليات، أو من التقليل من نتائجها، فإنّها تزامنت مع الادّعاء اليميني الإسرائيلي بنجاح مشروع السلام الاقتصادي مع الشعب الفلسطيني، وربط السلطة والشعب في التصاريح الإسرائيلية، حتى وصل الأمر إلى تجاوز وزير الحرب، بني غانتس، السلطة، ومحاولته إقحام الأردن في ترتيبات في شهر رمضان، والتي تحدّد معايير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لأداء الصلوات في المسجد الأقصى، والذي يكشف مدى الضعف الذي وصلت إليه حالة السلطة الفلسطينية، رغم تبني الأخيرة مواقف غير مقبولة من شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني ونظامه السياسي، وخصوصا إدانة العمليات ومنعها، حتى من دون أي ثمن سياسي بعد فشل العملية السياسية. وباتت إسرائيل مدركةً، بعد العمليات الفدائية أخيرا، أن احتمال صمود الحل الاقتصادي وثباته فترة طويلة مستحيلان، بعد أن شكلت عملية بني براك ترجمة دقيقة لشعارٍ رفعه سياسيون فلسطينيون، من دون أن ينفذوه، أنّ الحلول الاقتصادية بمعزل عن حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه لن توفر الأمن للإسرائيليين.
تشكّل مطالبة بينت المجتمع اليهودي بحمل السلاح اعترافاً صريحاً بفشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية في توفير الأمن
تزامن العمليات الفدائية مع قمة النقب التي جمعت ممثلين عن الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة عربية مطبّعة أدى إلى إحراج إسرائيل وتعميق أزمتها، إذ كشفت العمليات أنّ إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها، حتى تستطيع حماية أمن الإمارات والبحرين ومصر ، ما شكل صفعة كبيرة للمجتمعين بالقرب من قبر بن غوريون، رئيس أول حكومة في إسرائيل والمسؤول عن نكبة الشعب الفلسطيني وتهجيره واغتصاب وطنه وقتل عشرات الألوف من الفلسطينيين والمصريين والعرب. وقد عدّ الكل الفلسطيني الاجتماع بمثابة صفعةٍ وطعنةٍ في ظهرهم من الأنظمة العربية المشاركة، فلم يبق فيه سوى إعلان إسرائيل عن نهاية القضية الفلسطينية وتفرّغها لحماية أمن الأنظمة العربية، فتقلب العمليات الطاولة، ما أدّى إلى زيادة تأييد الفلسطينيين لها.
تشكّل مطالبة بينت المجتمع اليهودي بحمل السلاح اعترافاً صريحاً بفشل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بتوفير الأمن، وفهمها هذا المجتمع دعوة للدفاع عن الذات، وعدم انتظار الحكومة وأجهزة أمنها لحمايتهم. ويؤكد إقبال الإسرائيليين على التزود بالسلاح بزيادة 40 ضعفاً عمّا كانت قبل العمليات شعورهم بفقدان الأمن، كما صرّح مسؤول أمني إسرائيلي كبير لصحيفة إسرائيل هيوم العبرية، وكان 40% من المجتمع اليهودي قد عبروا عن شعورهم بالخوف والتهديد من العمليات الفدائية في استطلاع للرأي قبل أيام. ويحمل اسم خطة إسرائيل لمواجهة موجة العمليات الحالية، كاسر الأمواج، نوعاً من الحرب النفسية والتخويف، غير أنّ مصيرها سيكون الفشل، أسوة بمئات العمليات التي نفذتها إسرائيل في الماضي ضد إرادة الشعب الفلسطيني، لأنّ كلّ مكوّنات هذه الخطة وأدواتها سبق وجرى تجريبها واستنفادها، من عمليات الاغتيال والاعتقال والترهيب وحرمان الأقارب من العمل والإغلاقات وهدم المنازل واحتجاز الجثامين والعقوبات الجماعية والحروب العسكرية والنفسية والإعلامية، وتجنيد إدارات مواقع التواصل الاجتماعي في مراقبة الفلسطينيين وتقييدهم، وسياسات العصا والجزرة ومحاولات الإيقاع بين الفلسطينيين على أسس حزبية أو جغرافية. وأنّ إسرائيل التي باتت تتصرّف وكأنّها أنهت القضية الفلسطينية، وانتقلت إلى هندسة العالمين، العربي والإسلامي، وإعادة تركيبهما بما يخدم مصالحها سيفشل، طالما هناك جيل فلسطيني مصمّم على مواجهة إسرائيل، ولم يعد يأبه لكلّ منظومات القمع القائمة، خصوصاً بعد هبّة رمضان العام الماضي، والتي كسرت الحدود والجغرافيا، واتحد فيها الشعب، وأصبح انضمام فلسطينيين من الداخل لعمليات المقاومة أمراً عادياً، ما أحدث واقعاً أمنياً سياسياً معقداً أمام إسرائيل، ومن راهن على دخول المنطقة العصر الإسرائيلي.