عن عبد الرؤوف الروابدة
يستهلك سرد المناصب والمواقع والمسؤوليات التي تولّاها السياسي الأردني المخضرم، عبد الرؤوف الروابدة (84 عاماً) المساحة الأطول من سطورِ هذه المقالة، فلم يكن فقط وزيراً (للنقل والمواصلات، للصحّة، للتربية والتعليم، للأشغال العامة)، وأول رئيس للوزراء في عهد الملك عبد الله الثاني، وعضواً في المجلس الوطني الاستشاري (قبل عودة الحياة النيابية)، ونائباً منتخباً في خمسة برلمانات، وعضواً غير مرّة في مجلس الأعيان، ونائباً لرئيسِه ثم رئيساً له، وأمين عام العاصمة (عمّان)، بل إلى هذا كله (وغيرِه)، كان، مثلاً وليس حصراً، رئيس الاتحاد الأردني لكرة القدم، ورئيس مجلسي إدارتي شركتي الفوسفات والأسمدة، ورئيس جمعيتي الصداقة الأردنية البولندية وكليات الصيدلة في الجامعات الأردنية، وأمين عام حزبٍ كان من أبرز مؤسّسيه، فضلاً عن عضويّته في لجانٍ ومجالس عديدة في اختصاصات وفيرة (اللجنة الأولمبية الأردنية، مكافحة تلوّث البيئة، مجلس مستشفى الجامعة الأردنية، ... إلخ). فضلاً عن أنه وجهٌ اجتماعي بارزٌ في الأردن، وصاحب مؤلفاتٍ في الأدوية وعلم الجراثيم (تخرّج بامتياز من كلية الصيدلة في الجامعة الأميركية في بيروت 1962). وهو معروفٌ بثقافته القانونية، ومعرفته الحقوقية الواسعة، وأصدر من الكتب في السياسة أكثر من كتاب. يعرِفه الأردنيون صاحب شخصية جذّابة (من أكثر الأردنيين بشاشةً وإبداعاً للنكتة). اشتُهر بروح سجاليةٍ وكفاءةٍ عالية في الجدل. وليست منسية تلك الحلقة من "الاتجاه المعاكس" قبل نحو 25 عاماً (مدّدت إلى ساعتيْن)، وناظر فيها المعارض ليث شبيلات الذي لم تفلح شعبيّته وحجُجه في هزيمة الروابدة وإضعافه (تمنّى على شبيلات أن يصبح وزيراً بعض الوقت ليختبر جماهيريّته بعدها!).
مناسبة استدعاء هذا الإيجاز الشديد الاقتضاب (والمخلّ) في سيرة الصيدلاني، رجل الدولة المفوّه، عبد الرؤوف الروابدة، أن تلفزيون العربي استضافه أخيراً في ثلاث حلقاتٍ في برنامج "في رواية أخرى"، حاورَه الزميل بدر الدين الصائغ في غير شأن، وتابعها كثيرون من الجمهور الأردني (ماذا عن العربي؟) بقدرٍ من الاهتمام، وإنْ كان المأمول أن تزيد الحلقات عن عددها هذا، ليُضاءَ أكثر على محطّاتٍ ومواقف غير قليلة في مسيرة الضيف، مسؤولاً وصاحب رأي، وسياسياً. ... وإذا كان في الوسع أن يخرُج واحدُنا ببضع وقفاتٍ مرتجلةٍ مما سمع من عبد الرؤوف الروابدة، فربما يتعلق أولاها بأن رئيس الوزراء الأسبق، والوزير المتعدّد، والنائب والعيْن العتيد، يرى أن أقرب مناصبه إلى نفسه هي أمين العاصمة (عُمدة عمّان بالتعبير الفرنسي) بين 1983 و1986 وأمين عمّان الكبرى بين 1987 و1989. ذلك أن هذا المنصب أقلّ شأناً من مناصب عديدة تولّاها. وقد يعودُ الأمر إلى مساحات الحرية الأوسع التي كان يحوزُها الروابدة في اتّخاذ القرار، فضلاً عن إسهام كبير أنجزه لمّا استطاع أن يُمأسس العمل العام من أجل النهوض بالعاصمة الأردنية التي كانت قد بدأت في الاتّساع المضطرد مساحة وسكّاناً. وهناك ما يشبه الإجماع على أنه "أبدع" في أثناء تولّيه مسؤوليته تلك، وفي البال أنه ابن محافظة إربد في الشمال، وليس من عمّان.
لافتٌ ما بسَطه الإخواني العتيق أبو عصام (اسمُه المستعار في نشره قصائد له في صحيفة لحركة فتح إبّان كان طالباً في بيروت، ثم صار أبا عصام فعلاً)، في مسألة الهوية الوطنية الأردنية واستحالة تصادمها مع الهوية الفلسطينية. وقد أصاب، أياً كانت مواقفنا المُسبقة، في توصيفه أسباب صدامات "أيلول الأسود" في الأردن بين قوات الفدائيين والسلطة في الأردن، باعتبارها بين نظامٍ في دولةٍ وفوضى لا يجيزها هذا النظام، وليست جوهريا بين فلسطينيين وأردنيين. ومع مساحةٍ من الخلاف مع الروابدة بشأن "تسويغاته" السياسية للذهاب إلى سلامٍ مع إسرائيل، إلا أن الرجل كان صادقاً في حديثه عن نأيه الشخصي عن التطبيع مع دولة الاحتلال، وهو الذي لم يستقبل في مكتبه أياً من مسؤوليها. وعلى ما قد يكون من هوامش بشأن الذي قاله عن العشائرية في الأردن، فإنه ما حاد عن الصواب لمّا أوضح أن العشائرية ليست بمثل الدور النافذ والحاكم الموهوم في مدارك عرب كثيرين عن الأردن (أو لم تعد كذلك).
لافتٌ رفض الروابدة قانون الصوت الواحد (الذي اتّبع سنوات) في الانتخابات (نجح بموجبه ولم يخفق في أي منازلةٍ انتخابية)، وإلحاحه على وجوب حياةٍ حزبيةٍ لتطوير الحياة السياسية في الأردن، وهو الذي أسّس حزباً انضمّ تالياً إلى ائتلافٍ حزبي عريض، سرعان ما مات اثناهما، وهذه قصّة طويلة أخرى، كما قصصٌ بلا عدد تخصّ رجلاً رحْب التجارب والخبرات اسمُه عبد الرؤوف الروابدة.