عن زيارة بلينكن السعودية
زار الرئيس الأميركي جو بايدن، صيف العام الماضي، جدَّة، والتقى الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان. شكّلت تلك الزيارة نقطة بارزة في تاريخ العلاقة الطويلة بين البلدين، لأنها جاءت من رئيسٍ كان قد أعلن مواقف متشدّدة من السعودية في حملته الانتخابية. وبعد أن أصبح سيدا في البيت الأبيض، سارع إلى تطبيق ما تعهد به ضد المملكة، فأوقف تصدير الأسلحة الهجومية إليها، وعاقب بعض مسؤولي الأمن السعوديين، ومنع شخصيات سعودية كثيرة من دخول الولايات المتحدة بعدم منحهم تأشيرات دخول. سرعان ما خفت حماسُ بايدن للقسوة على السعودية، حين أدرك أن هذه العلاقة هي مع دولة غنية بالنفط، وتشكّل ثقلا إقليميا لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله، فالسعودية التي تتحكّم بـ10% من احتياجات الكرة الأرضية للنفط تستحق موقفا مميزا من دولة عظمى تراقب بدقّة وحرص مؤشّرات الاقتصاد في العالم، وتحتاج أحيانا من أجل ضبط هذه المؤشّرات إلى رفع الإنتاج اليومي للنفط أو خفضه، وهو ما تستطيع السعودية تلبيته، عندما تكون علاقتها جيدة مع الولايات المتحدة، ولكن في ظروف العداء، السعودية تستطيع أن تنتهج ما يعاكس رغبة أميركا، وهذا ما حدث بالفعل وأثّر على أسواق الاقتصاد العالمية، حتى وجد بايدن نفسه قبل سنة مُجبرا على التعامل مع السعودية عن قرب، فلحس كلامه السابق، واستقلّ طائرة خاصة ليحطّ في جدّة ويقابل الملك وولي العهد.
بعد عام على تلك الزيارة التي أراد لها بايدن أن تكون بداية لصفحة جديدة، تُرسل الولايات المتحدة قبل أيام وزير خارجيتها بلينكن إلى جدّة من جديد، ليذكّر بما جاء به بايدن، متناسيا ما حدث قبل أن يأتي بايدن إلى البيت الأبيض، والفترة الأولى من رئاسته، وليتظاهر بأن الحلف القديم ما زال بالقوة نفسها ويحمل الزخم ذاته، ولكن السعودية خلال العام الذي فصل بين زيارة بايدن وبلينكن تحوّلت نحو زبائنها في الشرق الأقصى، وأطلقت العنان لعلاقات جامحة مع الصين، وسمحت لها أن تقود حوارا سعوديا إيرانيا أفضى إلى فتح السفارة الإيرانية في الرياض، بعد قطيعة دبلوماسية دامت سبع سنوات. ومن غرائب الأقدار أن يكون يوم افتتاح إعادة السفارة الإيرانية في الرياض هو يوم وصول وزير الخارجية الأميركي إلى جدّة، بل وتصادفت أيضا زيارته مع زيارة الرئيس الفنزويلي مادورو الذي تضعه الولايات المتحدة على قائمة أعدائها، ولكن بلينكن ابتلع ذلك كله، وتحدّث عن علاقات طيبة، تاركا وراء ظهره كل الفترة المضطربة السابقة.
من غير المتوقّع أن تعيد السعودية الاستدارة الكاملة مرّة أخرى نحو الإدارة الأميركية، فقد اقترب العام الأخير للرئيس بايدن، وسينصرف كليا إلى حملته الانتخابية الحرجة، وقد يتهدّد بفقدان كرسيه، والتعامل مع رئيس غارق في حملة إعادة انتخابه قد تكون صعبة، بالإضافة إلى أن السياسة السعودية الحالية قطعت شوطا طويلا في بناء علاقاتٍ من نوع آخر مع الصين والجوار الإقليمي، من التصالح مع إيران ومع تركيا وحتى سورية التي وجدت السعودية وقتا لتعيدها إلى جامعة الدول العربية، بمعنى أن العهد السعودي، في الوقت الحالي، منصرف كليا إلى بناء شرق أوسط تكون له فيه حصة كبيرة، في خطّة تعتمد تنشيط الاقتصاد الداخلي الذي يطلق مشاريع ضخمة تستفيد منها السعودية ودول الجوار أيضا. ولكن المقلق أن هذه السياسة ظهرت بعد سنواتٍ من أداء مختلف طبع بداية ولاية عهد محمد بن سلمان نفسه، الذي ظهر رجلا قويا وذا ذراع طويلة، وقادرا على اتخاذ قراراتٍ صعبة كالحرب في اليمن والوقوف في وجه تركيا وإيران بشدّة، لتتحوّل فجأة تلك السياسة إلى شكل معاكس كليا بالاعتماد على إنعاش الاقتصاد والتصالح الإقليمي، وكلتا السياستين نتجتا من الجهة نفسها التي قد تتغيّر فجأة إلى اتجاه جديد..