عن رُكنين مركزيين في كتاب عزمي بشارة "مسألة الدولة"
بذل المفكر العربي، عزمي بشارة، جهدا بحثيا كبيرا في مؤلَّفه الصادر أخيرا، عظيم الأهميّة، "مسألة الدولة ... أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2023)، يتجلّى في الكثافة المضمونيّة أوّلاً، وفي المعمار الفكريّ والمنهجيّ الخاص بكاتبه، في شكل أساسيّ ثانياً، وفي الإسنادات المرجعية ثالثاً. وعزمي بشارة يكاشف قارئه في المقدّمة بأنّ عمله على هذا الكتاب كان شاقّاً، واستلزم سنتين لإنجازه، موضحا أنّه مكمّل لثلاثة من كتبه السابقة.
تتقاطع دوماً في قراءتي مؤلفات بشارة بين "المسألة" و"الإشكالية"، كأنّه باستخدام أيّ من المفردتين يقصد الثانية حكماً، فهو إذ يُمعن فكره هنا في "مسألة الدولة" يرمي إلى حلّ "إشكاليّة الدولة" تاريخيّاً، منذ نشأة مفهومها، مُفرِداً فصلاً خاصاً بهذه النشأة (الفصل الثالث)، بل ترد هذه "الإشكالية" التي قرنتها بـ "المسألة" في عنوان الفصل الأول "إشكالية الدولة الحديثة وخصوصيتها". وفكر عزمي بشارة، العلميّ الجدليّ، منذور، على امتداد مؤلّفاته الكثيرة، للغوص عميقاً في الإشكالات والمفاهيم التي تُعالج ولا تُشبع (على الأقلّ في البحوث والدراسات العربيّة) تمحيصاً وإحاطةً شاملة على نحو ما يفعل، بل حتّى إرجاعاً إلى جذور تلك الإشكالات والمسائل، في خدمة ما أراه "يقينيات" لديه، ثابتة غير متحوّلة على امتداد بنائه الفكريّ الذي يشيّده مدماكاً فوق مدماك، طوال عقود من مسيرته الفكرية.
من تلك " اليقينيات" (لا أدري إنْ كانت تصحّ في صيغة الجمع) يقين المواطَنة ركيزةً، لعلّها الأولى، في بناء الدولة الحديثة، فمنذ زمن بعيد ينادي بشارة بها ضمانا لنشوء الدول وثبات بنيانها. حتى في تصوّره لحلّ المعضلة الفلسطينية – الإسرائيلية الكأداء، كان عزمي بشارة في مرحلة نضاله ومحاججاته داخل الكيان الاستعماريّ الإحلاليّ الاستيطانيّ العنصريّ المحتلّ، يسعى، على الدوام، بمشاكساته الفكرية المعهودة التي اشتهر بها، داخل الكنيست وخارجه، إلى إقناع عتاة الصهاينة بتبنّي حلّ "دولة المواطَنة" التي تضمّ الجميع، فلسطينيين هم أصحاب الحق والأرض، ويهوداً استوطنوا هذه الأرض في غفلة من التاريخ (والعرب) بحماية بريطانية، على أن يحيوا معاً في دولة ديمقراطية تتسع للجميع، بحكم "الأمر الواقع". ولكن مع السنين، وبعد محاولات كثيرة وسعي دؤوب، خاب أمل بشارة، وأدرك (بإقرار منه في إحدى محاضراته) بأنّ اقتراحه لم يلقَ أدنى قبول وسط القيادات الإسرائيلية (وربما لدى أكثرية الشعب الإسرائيلي، باستثناء قلّة) التي ترفض أيّ تنازل أو فكرة تعايش أو أيّ شكل من السلام والتسليم بحقوق الشعب الفلسطينيّ في أرضه التاريخية.
المواطنة الحديثة هي عضوية الفرد المباشرة في كيان يجمع السلطة والمجتمع الذي تحكمه (...) لا توجد المواطنة في الواقع بصورة نقيّة مثل مفهومها، بل مختلطة مع انتماءات أخرى
يرى عزمي بشارة في مؤلّفه الجديد أن المواطنة الحديثة تتميّز من "المواطَنات" في العصور القديمة، حتى الديمقراطية منها، فالأخيرة قامت على امتيازات حصريّة للمواطن المالك القادر على إعالة نفسه (في مقابل العبيد والنساء). ونجمت هذه الامتيازات عن المكانة والانتماء إلى جماعة. والجماعة المقصودة "يمكن أن تكون قبيلة أو طائفة دينيّة أو جماعة إثنية"، موضحاً "ليست المواطنة في الدولة الحديثة عضويّة في مثل هذه الجماعات، وإن تقاطعت في بعض الحالات مع مثل هذه العضويّة تاريخيّاً. أمّا نظريّاً فلا يوجد تطابقٌ بين مفهوم المواطنة والعضويّة في هذه الجماعات، فالمواطنة الحديثة هي عضوية الفرد المباشرة في كيان يجمع السلطة والمجتمع الذي تحكمه (...) لا توجد المواطنة في الواقع بصورة نقيّة مثل مفهومها، بل مختلطة مع انتماءات أخرى، مثل الجماعة والقوميّة والإثنية وغيرها، وهذه تؤثّر فيها، وتبعدها عن مفهومها بدرجات مختلفة". وتشديداً على يقين المواطنة، يجزم الباحث بأن "لا دولة حديثة بلا مواطنين"، معتبراً "أنّ مفهوم المواطنة وتصوّراتها يمكّننا أيضاً من فهم الدولة في عصرنا بوصفها كياناً متميّزاً أو مختلفاً عن مجرّد الحكّام أو نظام الحكم"، ماضياً أبعد إلى القول "إنّ الدولة هي كيان حديث وأجلى تجلّياته هي المواطنة، أي عضوية الحكام والمحكومين فيه".
وتأكيداً على أولويّة المواطنة، يرد في المقدّمة "الدافع لهذا الكتاب وهدفه الأوّل الذي أحدّده هنا هما الإسهام في بلورة مفهوم الدولة وبحث قضاياها الرئيسة، وما يميّز الدولة الحديثة من سابقاتها، وربط تعريفها بالمواطنة (...)". كلام يريح ويمحو ترددّا في منح الدارس شرط المواطنة أولويّة في تكوين الدولة الحديثة. علماً أنّ ركيزة أخرى هي في صلب الدراسة تتمثّل في الديمقراطية التي يحدّدها عزمي بشارة هدفاً ثانياً، إذ يضيف في موقع متقدم يتوسّط الفصل الأول: "أمّا الدافع الثاني لهذا البحث، فهو كون موضوع الدولة حاسماً بالنسبة إلى الانتقال الديمقراطيّ (...)".
الفصل السابع من هذا البحث المتشعّب يفرده الباحث لمبدأ السيادة "ففي السيادة بوصفها سلطة عليا ونهائيّة، وفي أنّ وصفها بالمطلقة، لا يعني أنّها بلا حدود، بل يعني أنّها إمّا أن تكون وإمّا لا تكون (...)"، فالسيادة بالنسبة إليه تترجم أساساً في سلطة التشريع، وتتبعها بقية السلطات، وسيادة الشعب من دون أن تكون له سلطة التشريع مجرّد ديماغوجيا، جازماً بأنّ "فكرة السيادة لا بدّ من أن تظهر عاجلاً أم آجلاً، فلا يمكن تجنّبها (...)"، و"معيار السيادة في الدولة الحديثة هو احتكار التشريع على أرض وسكان (سواء أكانوا مواطنين أم غير مواطنين)، ومعنى سيادة الدولة على الأرض هو سريان قانونها على هذه الأرض، ومن ثمّ على السكان الذين يعيشون عليها". هنا لا يفوت صاحب الكتاب التشديد على أنّ "سلطة التشريع المستقلّة ذات السيادة هي نتاج فصل بين السلطتين الدينية والدنيوية"، فتكون سيادة الله في هذه الحالة على المؤمنين، مسلمين كانوا أم مسيحيين، بوصفهم مؤمنين أفراداً، وليست سيادة سياسية على الدولة. "فليس لمصطلح سيادة الله معنى سياسيّ، بل هو دينيّ أو رمزيّ. أمّا القانون الطبيعيّ الإلهيّ المصدر في الحالة الأوروبية، والشريعة في المجتمعات المسلمة (واليهوديّة أيضاً)، فيصبحان مسألة أعراف إجتماعية إذا كانت سائدة في مجتمع حديث، وليست قوانين".
يلفت عزمي بشارة في كتابه "مسألة الدولة" إلى أنّ ثمة اختلافات بين الدول في قدرتها على الحفاظ على سيادتها
وفي ما يتعلّق بسيادة الشعب، يرى "أنّ السيادة تكتسب معناها الحديث المتميّز، بمعنى سيادة مؤسّسات الدولة، بعد أن يكون المجتمع قد توقّف عن النظر إلى الدولة بوصفها كياناً غريباً عنه، وأصبح يتخيّل وجود دولة غير السلطة، هي ذلك الرابط المعنويّ والمؤسّسي بين السلطة والمجتمع، أو الجماعات التي تعيش في ظلّها"، مقدّماً مثل الولايات المتحدة كإحدى الحالات التي استُخدمت فيها فكرة سيادة الشعب كحلّ لمعضلة سيادة الدولة "فمقولة الشعب صاحب السيادة كانت في الولايات المتحدة حلّاً عمليّاً لقضايا الصراع على السيادة. فكيف يمكن التوفيق بين سيادة الدولة المركزيّة ووجود ولايات كانت دولاً ذات سيادة؟ الجواب المرحليّ في بعض الحالات هو افتراض وجود شعب واحد فيها كلّها، وله السيادة".
"عن السيادة على المستوى الدوليّ"، عنوان فرعيّ من الفصل عينه، ويلفت فيه عزمي بشارة إلى أنّ ثمة اختلافات بين الدول في قدرتها على الحفاظ على سيادتها. كما يرى أنّ ثمّة دولاً قائمة نظرياً "لكنّها في الحقيقة دول منهارة أو فاشلة: انهيار المؤسّسات وحالة الفوضى، أو ما يقترب من الفوضى، بوجود حكومة شرعية لا ىسلطة لها"، مقدّماً نموذجَيْ جمهورية الكونغو الديمقراطية ولبنان إبّان الحرب الأهلية عام 1975، "فقد نعى كثيرون من المعلقين لبنان في بداية الثمانينيّات بعد أن استشرت الفوضى في نهايات الحرب الأهلية، لكن المجتمع الدولي بطبيعة الحال لم يتخلَّ عن الاعتراف بدول قائمة، مهما استشرت فيها الفوضى. وفي النهاية حوفظ على الكونغو وعلى لبنان، وحتى على الصومال الذي ربما سيكتفي بانقسامه إلى دولتين".
قلّما شهد الفكر باللسان العربيّ دراسةً مماثلة شديدة الكثافة والغنى
لأنّهما محوران جوهريّان في اقتناعات عزمي بشارة الفكرية، وفي منهجه البحثيّ هنا، يمنح الفصل التاسع من كتابه عنواناً رابطاً "السيادة والمواطنة"، ليعيد التأكيد على هاتين الركيزتين في بناء الدولة الحديثة، متناولاً بدايات المواطنة في عرض تاريخيّ، وعارضاً الوجه الآخر للسيادة.
لا يفي أيّ عرض لمضمون هذا المؤلَّف حقه، فمحتواه ثري، مكثّف، ولا غنى بالتالي عن قراءته كاملاً. لذا تعمّدتُ حصر قراءتي هنا بمحورين هما في صلب فكر عزمي بشارة منذ مؤلفاته السابقة. إنّها استحالة مطلقة لا حلّ لها سوى اطّلاع القارئ المتابع والمهتمّ على كامل البحث بكفّتيه المتوازنتين، فثمة فكرٌ منسوجٌ بعقل متّقد ينطلق في كل اتجاه، والمراجع الكثيرة التي تبدأ بأبرامز وألتوسير وآرون ولا تنتهي عند ڨيبر، مروراً بهيغل وماركس وفوكو وبورديو وراسل (بعضٌ من المراجع بالإنكليزية)، ومثلها المراجع العربية كأسانيد في التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، وعدد منها لمفكرين قدامى أمثال ابن الجوزي وابن خلدون والبيروني والطبري، إلى مفكرين محدثين أمثال العروي وغليون وآخرين.
قلّما شهد الفكر باللسان العربيّ دراسةً مماثلة شديدة الكثافة والغنى. يبقى لنا أن ننهل من هذه العصارة الفكرية،علّ بوعينا حقيقة الإشكالات الكبرى تتغير أحوال عالمنا العربيّ المغرق في الاستبداد والحروب والصراعات والأزمات غير المنتهية.