تدميرٌ لا يُؤتي فاعلَه نصراً
متى أظهر الكيان الصهيونيّ الفاشيّ، على مرّ تاريخه الأسود، أنّه بطلٌ في مواجهات الميدان؟ في أيّ حرب خاضها مع دول الطوق أفصح عن شجاعة وإقدام في برّ المعارك؟ ألم يكن الطيران الحربيّ أميركيّ الصنع (تُحلّق به وتقوده "صفوةٌ " من غير البشر) هو الرافعة لحروبه قصفاً ومجازر وتدميراً؟ جيش هذا الكيان - البلاء هو الأفضل تجهيزاً والأفشل أداءً، أُنشئ عديداً وعتاداً للترهيب بضخامته واستعراضيته، ولوظيفة القتل لا القتال، في حين يتولّى سلاح الطيران المسعور كامل المهمّة بالنيابة عنه، تدميراً للمدن والقرى فوق رؤوس قاطنيها، وارتكاباً لأفظع المجازر التي تتحوّل مع الأيام أفعالاً إباديّةً يشهد عليها العالم بأسره، ويشاهدها في نقل حيّ.
يرى ذوو النفوس الضعيفة، المنظّرون من بُعد، ومن خارج ميادين المواجهات ومقاوماتها البطلة، أنّ غزّة هُزمت بمُجرَّد أنّها دُمَّرت، وأنّ المقاومة في لبنان خسرت إذ دُمِّر جزءٌ كبير من جغرافية بيئتها الحاضنة واغتيلت قياداتها، وأنّ كتلة الحديد والنار الإسرائيلية لا تُقاوم ولا تُردّ، وأنّ المدعوّة "إسرائيل" انتصرت وحقّق بنيامين نتنياهو مُناه وأهدافه، ولم يبقَ له سوى إعلان النصر الناجز! الانهزاميون هؤلاء، ليتهم يدلّوننا على النصر المتحقّق للكيان، هنا وهناك. ففي غزّة، حيث انتصر السيف على الدم حقيقةً لا مجازاً، ما برح المقاومون المدهشون الأبطال يقاتلون ببأس منقطع النظير، ويصطادون الجنود والضباط والآليات، ويخوضون منذ 11 شهراً ونصف شهر قتالاً ميدانياً أذهل العالم، ويدعمهم في ذلك شعب أسطوريّ لم يعرف تاريخ البشرية شعباً مماثلاً له في الصبر على الموت والجوع والعطش والمرض والنوم في العراء، والنزوح القاسي المستمرّ على الأقدام من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، ولم يحتشد حتى الساعة، رغم الآلام والمعاناة التي لا يحتملها بشريّ، عند حدود معبر رفح طلباً للجوء إلى مصر، بمئات الآلاف، هرباً من شدّة ما يقاسي، بل على العكس، لم يُظهِر هذا الشعب العظيم إلّا تمسّكاً بالأرض حتى الشهادة. والأمر شبيه اليوم في لبنان، حيث تتكرّر مأساة غزّة، وبأداة الجبن الإسرائيلية نفسها؛ غارات للطيران الحربيّ المحلّق عالياً بإجرامه وبهيميّته الإلكترونية مخلّفاً مع كلّ طلعة (نزهة جوية قاتلة) مأساةً إضافية في الأرض، دماراً وشهداء وجرحى. والرهان الصهيوني في الميدانين هو دائماً وأبداً على التدمير، لعلّه يقضي على معنويات الشعب والمقاومين معاً، ويُفضي بهم إلى الوهن والاستسلام. وحتى الساعة، ما زال جيش الصهاينة يراوح عند قرى الحافّة الأمامية في الجنوب اللبناني ويُقتَل منه العشرات.
أضحى هذا النهج التدميريّ للكيان الصهيونيّ الفاشيّ عقيدةً عسكريةً تُعرَف منذ حرب 2006 في لبنان بـ"عقيدة الضاحية"، وقد تكرّست على لسان قائد الأركان الأسبق لجيش الاحتلال غادي آيزنكوت خلال عدوان 2008 على غزّة، إذ صرّح آنذاك بأن كيانه سيتعامل مع أيّ منظّمةً تدعم أعداء الكيان باعتبارها "ميدان حرب شرعياً ستستخدم فيه القوة القصوى لتدمير البنية التحتية وتحقيق الردع". "عقيدة الضاحية" (التي تستمدّ اسمها من ضاحية بيروت الجنوبية التي دمّر الطيران الإسرائيلي جزءاً منها في حرب 2006 قبل أن يُعاد بناؤها لاحقاً، وكما سيتحقق في المستقبل الآتي) تقوم على تفعيل القوة النارية الإسرائيلية على نحو غير متكافئ أو غير متناسب، والتدمير الكامل للبنى التحتية للمدن والبلدات والقرى تحت حجّة أنها تُستخَدم منصّاتٍ لإطلاق الصواريخ، واعتماد العقاب الجماعي، الذي يهدف إلى إيقاع أكبر أذىً ممكن وأضرار بالمدنيين، والاستخدام المكثّف للقوة الجوية التي تمنح الكيان العنصريّ الفاشيّ سيطرةً عسكريةً وتفوّقاً على الخصم، واغتيال شخصيات وقيادات معدّة القوائم سلفاً، قبل خوض التدمير، وتطبيق سياسة الأرض المحروقة لجعل المناطق المستهدفة غير صالحة للسكن.
الرهان الصهيوني في غزّة ولبنان هو دائماً وأبداً على التدمير، لعلّه يقضي على معنويات الشعب والمقاومين معاً
يكاد الخبراء العسكريون يجمعون على أن الطيران الحربيّ المُدمّر لا يحسم حرباً أو معركة. أسطع مثالين في التاريخ المعاصر غير البعيد ستالينغراد وفيتنام الشمالية. فلا دمار يمكن تشبيهه بدمار غزّة أكثر من دمار ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية، الذي لم يأتِ لجيش هتلر بالنصر، بل بالهزيمة التامّة لمشروعه النازيّ الجنونيّ. ولم يُلقَ في التاريخ الحديث كمٌّ من قنابل النابالم يضاهي ما أُلقي على فيتنام الشمالية بواسطة الطيران الحربي، لتنتصر المقاومة الفيتنامية في النهاية على الجيش الأميركي في المستنقع البرّي، حيث تكبّد خسائرَ فادحةً ومرعبةً كان لها دويّ الهزيمة الكبرى داخل المجتمع الأميركيّ. وباستعادة معركة ستالينغراد التاريخية، نرى أن هذه المدينة السوفييتية (على نهر الفولغا) تعرّضت لقصف مكثّف من سلاح الجو الألماني تمهيداً لتقدم القوات البرية الألمانية إلى ضواحي المدينة بحلول أغسطس/ آب 1942. قُصِفت ستالينغراد بقنابل حارقة في 1600 طلعة جوية لتحدث دماراً هائلاً وكاملاً في المدينة التي بلغ عدد ضحاياها من المدنيين نحو سبعين ألفاً ومائة وخمسين ألف جريح. دمّرت وأحرقت المصانع والمنازل والمدارس، وغطى الدخان الأسود الشبيه بالبركان سماء المدينة، وارتفعت ألسنة اللهب العملاقة من حاويات تخزين النفط الضخمة، التي انسكبت محتوياتها من النفط المحترق في نهر الفولغا. سرعان ما تحوّلت المدينة إلى أنقاضٍ وأطلالِ عمران، كأنّ إعصاراً رفعها في الهواء وحطّمها مرّة أخرى مليونَ قطعةٍ. ومن أبرز الأسباب التي تُعزى إليها هزيمة الجيش الألماني في المدينة ذاك العائق التي مثّله "الجنرال ثلج"، الذي سبق أن هزم جيش نابوليون بونابرت في معركة موسكو. فقد تسبّب البرد والجوع في إنهاك الجنود الألمان، وتعطّلت آلياتهم ومدرعاتهم لنقص الوقود، فضلاً عن النقص في الذخيرة، بالتزامن مع اشتداد هجمات الجيش السوفييتي الذي كان يسعى بقوة وبسالة في أرضه لإنهاء الوجود الألماني في المدينة، وبدا هتلر كأنه المتسبّب في هزيمة قواته، إذ أمرها بالثبات مهما كلّف الثمن، مع وعد بالمزيد من المؤن والإمدادات عبر الجسر الجوي، واستقدام مزيد من القوات لكسر الحصار على المجموعة الأولى في المدينة. لكنّ مع مخطّطاته التي أعطيت اسم "عاصفة الشتاء" (إطلاق التسميات إرث نازيّ في الكيان الصهيوني)، أخفقت عمليات التموين عبر الجو، ما أدّى إلى الانهيار التام للجيش الألماني السادس، الذي اضطرّ قائده فريدريك باولوس إلى الاستسلام في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1943، ومعه معظم قوات جيشه، رغم مواصلة بعض أفراده القتال، حتى تمّت تصفية الجيش بأكمله. تلك المعركة التاريخية الحاسمة في المدينة المدمَّرة استمرّت نحو 200 يوم وقضت على الحلم النازيّ برمّته.
ستالينغراد المدمّرة بالأمس مثل غزّة اليوم، جلبت للشعب الروسي، بل للعالم أجمع، النصر الحاسم والنهائيّ على الجيش النازيّ "الذي لا يقهر" آنذاك
ستالينغراد المدمّرة بالأمس مثل غزّة اليوم، جلبت للشعب الروسي، بل للعالم أجمع، النصر الحاسم والنهائيّ على الجيش النازيّ "الذي لا يقهر" آنذاك. قد تجلب غزّة البطلة نصراً مشابهاً للشعب الفلسطيني. مثالُ فيتنام ليس بعيداً عن غزّة أيضاً، بل لعلّه أقرب لناحية الأنفاق، فلمواجهة الغازي الأميركي، لجأ المقاومون الفيتناميون الشماليون إلى حفر أنفاق سرّية هائلة تحت الأرض جعلت الجيش الأميركي في جحيم لا يطاق (عبّر عنه أوليفر ستون في فيلم "الفصيلة"، وكوبولا في "القيامة الآن"). في إبريل/نيسان 1969، قُدّر عدد الجنود الأميركيين في الأراضي الفيتنامية أكثر من نصف مليون عسكري، اضطروا إلى مواجهة قوات الفيتكونغ، التي تميّزت بخبرتها في حرب العصابات والاختباء في الغابات (مثل قوات حزب الله اليوم في جنوب لبنان). استمرّت هذه الحرب أكثر من عقدين من السنين مارس فيها الأميركيون، قبل الخروج بهزيمة نكراء (58 ألف جندي قتلوا، عدا ألوف المعوّقين) فائق وحشيتهم، التي ارتبطت بقنابل النابالم الحارقة، والتي أمست محرّمة عالمياً لاحقاً.
معظم الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في القرن الماضي والقرن الحالي، ومثلها ربيبتها المدعوّة "إسرائيل"، لم تسفر عن نتائج حاسمة ومطلقة، سوى ربّما لناحية تدمير المدن والبنى التحتية، من حرب العراق إلى حرب أفغانستان، مروراً بلبنان وغزّة وسورية. بات خصوم هاتين القوّتين الباغيتين، من المقاومات تحديداً، يمتلكون أدواتٍ تمنعهما من تحقيق انتصار حاسم، رغم التدمير الهائل من أجل إحداث ما يسمّى "الصدمة والترويع" لكسر إرادة الشعوب المقاومة، والتأثير النفسي في الجمهور الحاضن. لكن مع كلّ عدوان مجرم يقدم عليه الكيان الصهيونيّ، أو سيّده الأميركيّ، أو كلاهما معاً بالتكافل والتضامن، ينتهي الأمر إلى استيعاب الصدمة، وردّ العدوان، وحرمان المعتدي نصراً حاسماً وسريعاً، بل جرّه إلى حرب استنزاف ليست في مصلحته على الإطلاق. ومع امتداد الاستنزاف، تتضاءل شيئاً فشيئاً مفاعيل التدمير الذي يفتتح الأسابيع الأولى للعدوان قبل الدخول في المواجهة البرية، على ما حصل ولا يزال في غزّة ولبنان، حيث يسجّل المقاومون الأبطال ملاحم أسطورية وسط دمار منتهي المفعول والصلاحية.