عن رهانات أردوغان السورية
أوفدت تركيا، قبل أيام، نائب وزير خارجيتها بوراك أكجابار إلى موسكو للمشاركة في اجتماع رباعي مفترض مع نظرائه الروسي والسوري والإيراني، لدفع مسار الحوار بين أنقرة ودمشق. ولكنّ الاجتماع لم يُعقد، وقال مسؤولون أتراك إنه تم تأجيله إلى موعد غير مُحدّد لأسباب فنية. ومن غير الواضح ما هي هذه الأسباب، ولماذا أوفدت دمشق وطهران دبلوماسيين منخفضي المستوى للمشاركة فيه، بينما كان بشار الأسد ضيفاً على الكرملين في اليوم الذي كان من المُفترض أن يُعقد فيه الاجتماع. من الواضح أن أسباباً سياسية وليست فنية تُعرقل مسار الحوار التركي السوري، وهي في دمشق وطهران، وليس في أنقرة أو موسكو. فمن جانبٍ، يضع النظام السوري شرطاً أساسياً للمضي في الحوار مع تركيا، موافقتها على وضع جدول زمني لسحب قواتها من شمال سورية. ومن جانب آخر، لا يبدو إن إشراك طهران في الآلية الثلاثية التركية الروسية الإيرانية كان كافياً لضمان دور إيراني في تسهيل هذا الحوار. مع أنه كان من غير الواقعي استبعاد طهران في البداية من الآلية الثلاثية، بالنظر إلى نفوذها على النظام السوري، وبالنظر إلى أن هذا الاستبعاد جعلها مهمّشة من أنقرة وموسكو، بينما هي شريك رئيسي في تقاسم النفوذ مع البلدين في سورية، إلّا أن إشراكها في هذه الآلية جعلها في الواقع أكثر قدرةً على تعقيد مسار المصالحة مع أنقرة ودمشق.
السبب في ذلك أن الإيرانيين ينظرون إلى دور تركيا في سورية أنه يُضعف أهدافهم الجيوسياسية، حتى لو قرّرت أنقرة إصلاح علاقاتها مع النظام، وإعادة الاعتراف بشرعيته. كما أنّهم متشكّكون أصلاً في دوافع انعطافة أردوغان تجاه دمشق، ويعتقدون أنها نابعة من عوامل داخلية مرتبطة بالمناورة أو بالانتخابات التركية أو كليهما معا، ولا تعكس رغبة في إحداث تحوّل جذري في السياسة التركية في سورية. يبدو ذلك صحيحاً جزئياً، بالنظر إلى أن أنقرة لا تزال غير مستعدّة للموافقة على انسحابها من سورية قبل تحقيق تسوية سياسية شاملة للصراع على أساس قرار مجلس الأمن 2254. كما أنها تهدف إلى تحقيق بعض المكاسب من هذه الانعطافة على سبيل موافقة الثلاثي الروسي السوري الإيراني على تعاونٍ معها في مواجهة المشروع الانفصالي للوحدات الكردية، ومساعدتها في تسهيل عملية إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وهي مسألة حيوية لأردوغان في الداخل. علاوة على ذلك، هناك اعتقادٌ متزايدٌ في إيران بأن الانشغال الروسي في حرب أوكرانيا يُشكل فرصة لها للعب دور أكبر في سورية. على الرغم من أن الإيرانيين أعربوا عن دعمهم مساعي إعادة إصلاح العلاقات بين أنقرة ودمشق، إلا أنّ أولوياتهم في سورية هي عرقلة أي مصالحة لا تؤدّي إلى انسحاب تركيا من سورية، وتُقوض طموحاتهم بتعميق اعتماد الأسد عليهم.
على عكس طهران ودمشق، تبذل موسكو جهوداً كبيرة لمحاولة دفع مسار الحوار التركي السوري
مع ذلك، لا تقتصر العقبات التي تحول دون تقدّم المسار السوري التركي فقط على العامل الإيراني. يعتقد الأسد أن القبول بإصلاح العلاقات مع أنقرة في الوقت الراهن سيُساعد أردوغان في تقوية موقفه الانتخابي في الداخل. كما يُراهن على أن دمشق ستكون قادرةً على تحقيق ظروف أفضل في المصالحة مع تركيا، في حال خسر أردوغان الانتخابات وفازت المعارضة. في حين أن أردوغان لا يُبدي تنازلاتٍ بشأن مستقبل الوجود العسكري التركي في سورية، فإن المؤشّرات التي تُعطيها أحزاب المعارضة التركية خصوصاً في رغبتها بإعادة فورية للعلاقات مع دمشق في حال وصلت إلى السلطة، تفيد بأنها لن تكون متمسّكة بشدة في إبقاء القوات التركية في سورية إلى أمد بعيد. حتى مع افتراض أن المعارضة قد تنجح في الانتخابات، فإن ضعف قدرتها على إحداث استقرار في الائتلاف الحكومي ستؤثر سلباً على زخم الحضور التركي في سورية وهذا يُشكل بحد ذاته فائدة للنظام السوري وحليفه الإيراني. في ضوء ذلك، من المستبعد بشدة أن يطرأ تقدّم جوهري على مسار المصالحة بين أنقرة ودمشق قبل الانتخابات التركية.
على عكس طهران ودمشق، تبذل موسكو جهوداً كبيرة لمحاولة دفع مسار الحوار التركي السوري، لثلاثة اعتبارات رئيسية: أولاً، في وقت أثارت حرب أوكرانياً شكوكاً بشأن قدرة موسكو في مواصلة لعب دور رئيسي في المعادلة السورية، فإن بوتين حريصٌ، من خلال رعاية الحوار بين أنقرة ودمشق، على تكريس دور روسيا ضابط إيقاع للتوازنات الإقليمية في سورية، ولا سيما بين تركيا وإيران. وثانياً، يتخوّف الروس من أن إطالة مساعي المفاوضات بين أنقرة ودمشق ستُقلل من شهية تركيا لمواصلة انفتاحها على النظام السوري. وثالثاً، على عكس طهران ودمشق، تنظر روسيا بأهمية إلى الانتخابات التركية، ولا تمانع في منح أردوغان أوراق قوة إضافية في المسألة السورية، من أجل تعزيز فرص بقائه في السلطة، لأن خسارته ستدفع تركيا إلى الارتماء في الحضن الغربي مُجدّداً. في الواقع، يكشف موقف الأسد في الحوار مع تركيا حدود التأثير الروسي عليه. كان الافتراض السائد أن لدى موسكو التأثير الكافي على النظام لإقناعه في المضي بالمصالحة مع تركيا، لكن الشروط التي يضعها تُفيد بأن النظام لا يزال يمتلك هامشاً لمقاومة التأثير الروسي عليه.
تركيا راغبةٌ في إتمام المصالحة مع دمشق، قبل الانتخابات وبعدها، إلّا أنها غير مستعدّة لتقديم تنازلات جوهرية على الفور أو في المستقبل المنظور
تبدو أنقرة صريحة في أن انسحابها من سورية مرهونٌ بتحقيق تسويةٍ نهائيةٍ للصراع السوري على أساس قرار مجلس الأمن 2254. ويبدو أن مقاربتها هذه المسألة تحظى جزئياً بتفهم موسكو التي تولي أهمية لاستمالة تركيا، ودفعها إلى الانخراط بشكل أكبر في جهودها لتسوية الصراع وفق معاييرها والضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من سورية، وإظهار قدرتها على التحرّك بفعالية ضد المصالح الأميركية في سورية والشرق الأوسط من خلال جذب حلفاء واشنطن للتعاون معها كتركيا والإمارات. رغم أن تركيا راغبةٌ في إتمام المصالحة مع دمشق، قبل الانتخابات وبعدها، إلا أنها غير مستعدّة لتقديم تنازلات جوهرية على الفور أو في المستقبل المنظور. كما أنها ستعمل على استخدام حوارها مع دمشق ورقة مساومة مع واشنطن لانتزاع تنازلاتٍ منها في بعض القضايا، منها مسألة الدعم الأميركي للوحدات الكردية. قد يدفع الانفتاح التركي على دمشق واشنطن إلى طرح عرض حقيقي على الطاولة، يُلبي بعض المطالب الرئيسية لتركيا كانسحاب الوحدات الكردية من المناطق الحدودية. في ضوء ذلك، حتى لو واصل النظام السوري تعقيد فرص المفاوضات مع تركيا، فإن أردوغان حقّق ما أراده من خلال هذه الانعطافة. فهو، من جانب، حرم المعارضة التركية من توظيف ورقة اللاجئين السوريين في الانتخابات، ومن جانب آخر، اكتسب أوراقاً تفاوضية أخرى مع الولايات المتحدة في مسألة الوحدات الكردية.