عن رسالة المرشّح ماكرون إلى الفرنسيين
لولا قانون الانتخابات الفرنسي الذي يحتم على كل مرشّح للرئاسيات الإدلاء بخمسمائة من التزكيات الموقعة من المنتخِبين الكبار، والإعلان عن قبول الترشّح لدى المجلس الدستوري قبل السادسة مساء من يوم الجمعة، 4 مارس/ آذار الجاري، لما أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن ترشّحه لخوض الانتخابات الرئاسية التي ستجري الشهر المقبل (إبريل/ نيسان)، فالرئيس كان يقوم بحملته الانتخابية بطريقةٍ تجعله فوق كل منافسيه الذين ظلوا يستنكرون استعماله مركزه الرئاسي لترويج نفسه بطريقةٍ غير مباشرة، خصوصا وأن كل الظروف السياسية والاقتصادية في الوقت الحالي ترجّح كفة الرئيس، فعلاوة على تحقيقه نتائج اقتصادية محترمة رغم الجائحة، حيث نزل عدد العاطلين إلى مستوىً لم تعرفه فرنسا منذ أكثر من 15 سنة، فإن تحرّكه السياسي في الأزمة الأوكرانية زاده شعبيةً لدى الشعب الفرنسي، وقلل من حظوظ منافسيه الأكثر خطورة، خصوصا وأنهم جميعهم معروفون بقربهم من الروس وتودّدهم للرئيس بوتين. وإذا كانت علاقة مرشّحي اليمين المتطرّف مع روسيا لا غبار عليها، فإن علاقة بعض مسؤولي حزب الجمهوريين اليميني مع الروس، واضطرار فرانسوا فيون، مرشّحهم السابق لرئاسيات 2017، للاستقالة من شركة غازبروم الروسية قد ألقى بظلاله على مرشّحتهم التي توارت إلى الوراء.
اختار الرئيس ماكرون أن يعلن عن ترشّحه في مراسلة مكتوبة، سمّاها "رسالة إلى الفرنسيين". ومباشرةً بعد الإعلان عنها، ارتفعت أسهمه بخمس نقاط، في أحدث استطلاعات الرأي، حيث وصلت نسبة نوايا التصويت لصالحه إلى ما يناهز 30% في الدور الأول، وهي نسبة جد عالية، مقارنة مع الانتخابات الرئاسية السابقة، مع تحقيق فوز كبير بما لا يقل على 60% في الدور الثاني، بغض النظر عمّن سيكون منافسه. وإذا كان عامل الحرب جد مهم، كون الرئيس ارتدى كسوة القائد الأعلى للقوات المسلحة، والشعوب لا تغيّر قادتها إبّان الحروب إلا نادرا، لضمان الاستقرار السياسي، فإن تموقع ماكرون السياسي الداخلي مكّنه من إقناع عديدين من مواطنيه، باعتباره الملجأ ضد التطرّف الشعبوي، اليميني واليساري.
يضع ماكرون مسؤولية الفشل وتقويمه على نفسه، بينما تحدّث عن الإنجازات والمسار المتّبع بصيغة الجمع، وهو ما لا نحلم بسماعه من أي زعيم عربي
قبل الدخول في تفاصيل مضمون رسالة ماكرون، لا بد من التعليق على الشكل، فهي رسالة مكتوبة، أتت بعد خطاب متلفز موجّه إلى الشعب الفرنسي، تحدّث فيه ماكرون عن الحرب الروسية الأوكرانية، وعن التهديدات التي أحدثتها هذه الحرب من الناحيتين، العسكرية والجيوسياسية، من دون نسيان الحديث عن الآثار الاقتصادية، بينما لم يشر، من قريب أو من بعيد، إلى سباق الرئاسيات. ومن هنا، يمكن القول إن الرئيس الفرنسي، من خلال طريقة إعلان ترشّحه، يبعث رسالة ضمنية أخرى، مفادها بأنه جد مشغول بمهامه رئيسا لفرنسا، وللاتحاد الأوروبي في هذه الفترة العصيبة، وأن عليه، في هذه الظروف، وفي إطار السياق الدولي والأحداث الجارية على أبواب أوروبا، تغيير أولوياته، وتعديل أجندته السياسية الداخلية، لتوحيد الصف الداخلي وتعزيز التنسيق الأوروبي في مواجهة الخطر الروسي. ومن هنا، يضرب عصفورين بحجر واحد، إذ إنه، بمواقفه في السياسة الخارجية، يعزّز مكانته وموقفه ضد خصومه في الداخل، وكأنه يقول للفرنسيين، إذا كنتم ترغبون في شبيه لبوتين أو ترامب وسياستهما، فصوّتوا لغيري. إنه التسويق السياسي للأحداث، واستغلالها بمكر ودهاء.
من الملاحظ في خطاب ماكرون غياب مواضيع كانت محلّ جدال واسع بين المرشّحين الآخرين، وافتتحت بها جُل المناظرات، وهي المواضيع المتعلقة بالهجرة والوجود الإسلامي في فرنسا، حيث تجنب الرئيس ذكرها، في الوقت الذي جعلها كل منافسيه من اليمين تتصدّر كل خطاباتهم السياسية، كما أن استعمال كلمة "نحن" ثلاثين مرة يعطي الانطباع أن الرجل يضع نفسه في موقع الرئيس المسؤول الذي يريد توحيد الجميع تحت رايته، بغض النظر عن الانتماءات السياسية والعرقية والدينية، وهذا صحيح، إذا قارنّاه مع أغلب المرشّحين.
يمكن تقسيم رسالة ماكرون إلى قسمين رئيسيين. يتحدّث الأول عن حصيلة خمس سنوات من الحكم، والثاني عن مشروعه المستقبلي الذي دفعه إلى الترشّح لاستكمال ما بدأه خلال عهدته الرئاسية، في نوعٍ من الاستمرارية التي ستستفيد، هذه المرّة، من تجربة الحكم، لتفادي الأخطاء التي حصلت، معترفا بوجودها، قائلا: "هناك خياراتٌ ربما أقوم بها بشكل مختلف مع الخبرة المكتسبة معكم". وهنا نلاحظ تغيير لغة الخطاب من الجمع إلى المفرد، حيث يضع مسؤولية الفشل وتقويمه على نفسه، بينما تحدّث عن الإنجازات والمسار المتّبع بصيغة الجمع، وهو ما لا نحلم بسماعه من أي زعيم عربي، فالحكومات والوزراء جُعلوا في دولنا لتحمّل المسؤولية. أما الإنجازات فهي دائما بفضل القائد الملهم.
يؤكّد المرشّح ماكرون على ضرورة الدفاع عما سمّاه التفرّد الفرنسي الذي يقتضي معرفة وحب وتقاسم الموروث التاريخي واللغوي والثقافي الفرنسي
بدأ ماكرون رسالته التي جاءت في ثلاث صفحات بالحديث عن المصاعب التي واجهها خلال ولايته، حيث ذكر الإرهاب والجائحة وعودة العنف والحرب في أوروبا، متناسيا ذكر الأزمات الاجتماعية التي عرفتها فرنسا إبّان حكمه، مثل أزمة "السترات الصفر" التي كادت أن تطيحه، ثم عرج إلى الحديث عن الإصلاحات والإنجازات التي تمكن من تحقيقها من دون الدخول في التفاصيل، والشيطان يكمن فيها، لينتقل إلى الحديث عن مشروع المستقبل الذي استهله بهذه الجملة التي يرد فيها على منافسيه من اليمين واليمين المتطرّف، حيث يقول "دعونا لا نخطئ: لن نستجيب لهذه التحدّيات باختيار الانسحاب أو زراعة الحنين إلى الماضي.. سننجح من خلال النظر بتواضع ووضوح في الوقت الحاضر، والتحدّي يكمن في بناء فرنسا أطفالنا، وليس إعادة صياغة فرنسا التي عرفناها في طفولتنا"، وهو بهذا يدين التحليل الماضوي والحنين إلى فرنسا أحادية الثقافة والدين لدى مرشّحي اليمين المتطرّف، وهو رد مباشر على العنصري، إريك زيمور.
هو اعترافٌ ضمنيٌّ بتغير فرنسا وتحولها إلى مجتمع متعدّد، لكن هذا الاعتراف لا يعني قبول كل شيء، ففي نهاية رسالته، يؤكّد المرشّح ماكرون على ضرورة الدفاع عما سمّاه التفرّد الفرنسي الذي يقتضي معرفة وحب وتقاسم الموروث التاريخي واللغوي والثقافي الفرنسي، وأن المواطنة الفرنسية واجبات وليست حقوقا فقط، مظهرا بهذا صرامته في هذا المجال، الذي يتهمه فيه معارضوه بالتراخي، وبذلك يبقى وفيا لما أبان عنه، أخيرا، من سياسة داخلية ترنو اللعب على حبلين، هي لعبة توازن في محاولةٍ لإرضاء أكبر عدد من مواطنيه.
يحاول ماكرون جاهدا البقاء في برجه العاجي، ولا يريد النزول إلى حلبة الملاكمة، طالما أعطته استطلاعات الرأي المكانة الأولى، فبقاؤه هناك لا يحقّق له إلا المكاسب، ونزوله سيكون محسوبا جدا، لا سيما وأن الظروف الحالية المواتية خدمته، كما لم تخدم أي مرشّح قبله، فهل سيستطيع الفوز بدون القيام بحملة انتخابية ميدانية حقيقية، وهي من أسس الديمقراطية الفرنسية؟ هذا ما سنراه.