عن تأثير الديموغرافيا على مجتمع إسرائيل
تعيد آخر المستجدّات في إسرائيل إلى صدارة الاهتمام موضوع الديموغرافيا، والذي طالما كان سجاليًا، نظرًا إلى أثرها الكامن في شؤون البلد الداخلية والخارجية. والحقّ أن معطيات الديموغرافيا تفسّر سياساتٍ تتعلق بموضوعات متعدّدة، بدءًا بالحريات الدينية، وصولًا إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مرورًا بالمشاركة الاقتصادية والتقسيم الإثني. بل وسبقت التفسيرات تنبؤاتٍ بات بعضُها في طور التحقّق أمام ناظرينا.
قبل التذكير بتلك التنبؤات، ينبغي الإشارة إلى أنه لدى التوقّف عند موضوع الحريات الدينية والتقسيم الإثني، يلاحظ أن ظاهرة إقامة أحزاب قطاعية أو فئوية هي مجرّد مثال واحد على كيفية انعكاس الاختلافات الإثنية والدينية، والأيديولوجية أيضًا بطبيعتها، في الحياة السياسية الإسرائيلية. وتدعو أحزابٌ دينيةٌ إسرائيلية إلى دولة تحكمها "الهالاخاه" (الشريعة اليهودية)، بما في ذلك الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق والخدمة العسكرية ودعم الدولة مؤسّسات دينية. ومع ذلك، وبالرغم من هذه التطلعات المشتركة للأحزاب الدينية، يقدّم حزب شاس لليهود الأرثوذكس (الحريديم) نفسه قبل أي شيء حزبا "سفارادي" (يهودي شرقي)، بينما حزب يهدوت هتوراه، وهو تحالف فصيلين صغيرين من اليهود الأرثوذكس (ديغِل هتوراه وأغودات يسرائيل)، أكثر تمثيلًا لمصالح "أشكنازية". في المقابل، حزب "إسرائيل بيتنا" قومي علماني، ولكنه يمثل أساسًا مهاجرين ناطقين باللغة الروسية.
لعلّ الجانب الأكثر لفتًا للنظر حاليا فيما يرتبط بالتنبؤات هو المتعلّق بجمهور اليهود الحريديم، ففي طبعة 2010 من كرّاسة "إسرائيل: ديموغرافيا" التي يشرف عليها الخبير في شؤون الديموغرافيا والجغرافيا السياسية، البروفسور أرنون سوفير، من جامعة حيفا، واشتركت معه في كتابتها يفغينيا بيستروف، الباحثة في مجال الديموغرافيا الإسرائيلية، جاء أنه في العام 2010 بلغ عدد السكان في إسرائيل 7.6 ملايين نسمة، منهم نحو 5.7 ملايين يهودي، من بينهم 8% حريديم (نحو 460 ألفا). وفي الفئات العمرية الشابّة، نسبة الحريديم أعلى من ذلك بكثير، نظرا إلى معدّل التكاثر الطبيعي المرتفع، فمثلا في فئة 20 - 24 عامًا، يشكل الحريديم 13%، وهم يصلون إلى نحو 30% بين المواليد الجدد. والتوقّع أن يزيد عدد الحريديم في 2030 على مليون شخص، غالبيتهم من الأولاد. وهذا التوقّع بني على نسبة تكاثر طبيعي تتراوح بين 6% و7% سنويا بين هذه المجموعة السكّانية. وفي الواقع، يتجاوز عددهم حاليا المليون، حيث تفيد معطيات مكتب الإحصاء المركزي بأنه بلغ 1.226 مليون في عام 2021 وارتفعت نسبتهم إلى 13% من السكان اليهود.
وتؤثّر هذه الزيادة، مثلما جاء في نبوءة أخرى تتحقق، ليس في طبيعة نظام الحكم إنما أيضًا في مناحٍ أخرى. ومثلما كتب في حينه في تلك الكرّاسة: إن نسبة التكاثر المرتفعة لدى مجموعة الحريديم، والتي تعني ازديادها بسرعة، تفوق حجم مواردها، وازدياد جهاز التعليم الحريدي الذي لا يُكسب خرّيجيه مؤهلاتٍ لسوق العمل، بالإضافة إلى نسبة منخفضة من المشاركة في قوة العمل الذكورية في سن العمل، ودخل جار منخفض للعائلات، من شأنها أن تعمّق دوائر الفقر المستفحل أصلا وتوسّعها (نحو 60% من الحريديم فقراء، طبقا لتقرير بنك إسرائيل لعام 2010). ونظرًا إلى أن الوسط الحريدي يزداد بوتيرة أسرع مما هي عليه بين اليهود الآخرين، ونظرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من الجيل الشاب في هذه المجموعة يعتمد على المعونات الحكومية، في حين أن جزءًا آخر منه يعمل بصورةٍ جزئية جدًا، فإن هذه المجموعة تغدو عبئًا على كاهل المجموعات السكانية الداعمة. فبين 2000 - 2010، تم تحويل نحو 8% - 10% من الناتج القومي سنويًا إلى العائلات المحتاجة، مباشرة (بنك إسرائيل، 2010)، وفي كل سنةٍ يزداد مبلغ هذه التحويلات، بسبب الزيادة في الناتج القومي (النمو). ولا تزال الدولة تموّل نمط الحياة المميز هذا لدى الحريديم، ولكن يبقى السؤال: إلى متى سيكون في مقدور إسرائيل أن تبقى دولة معونات، وأن تحافظ على مجموعاتٍ تعيش على معوناتٍ بهذا الحجم الضخم؟