عن المشاريع المصرية لإعادة الإعمار في غزّة
عرضت وزارة الأشغال العامة والإسكان في قطاع غزّة تفاصيل مهمة وجديدة عن المشاريع المصرية لإعادة الإعمار، تنفيذاً لمنحة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي أعلنها في أثناء الحرب العدوانية الإسرائيلية في مايو/ أيار الماضي، والمقدّرة بنصف مليار دولار. وتضمّنت بناء وحداتٍ سكنية في مناطق مختلفة وجسر في منطقة الشجاعية، إضافة إلى تطوير شارع الرشيد الساحلي في غزة.
قال وكيل الوزارة، ناجي سرحان، لصحيفة فلسطين المحلية، في 23 من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، إن اللجنة المصرية لإعادة الإعمار بصدد افتتاح مكتب رسمي لها في غزة لمباشرة تلك المشاريع، متوقعاً الانتهاء من المرحلة الأولى منها خلال ستة شهور، وكاشفاً عن طرح وزارته مناقصاتٍ أمام الشركات الفلسطينية للتنفيذ الفعلي للمشاريع المصرية، وسيجري الإعلان عن إرساء تلك المناقصات أوائل شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. وقد بدت التفاصيل التي عرضها المسؤول الفلسطيني عن المشاريع المصرية لافتة جداً، شكلاً ومضموناً. وقبل تقديم قراءة جغرافية، أو للدقة جغرافية سياسية أمنية لها، لا بد من إلقاء نظرة على الدور والحضور المصريين المتجدّدين فلسطينياً، بما في ذلك الانخراط الجدّي في إعادة الإعمار في غزّة.
بعد توقف أو جمود لسنوات (2013 – 2017)، ثم (2019 – 2020)، استأنفت القاهرة حضورها الفلسطيني خلال حرب غزة (مايو/ أيار 2021)، انطلاقاً من رغبتها في التقرّب إلى أميركا وإدارتها الديمقراطية الجديدة، إثر رحيل إدارة دونالد ترامب الذي اعتبر عبد الفتاح السيسي ديكتاتوره المفضّل، عبر تخفيف عبء القضية الفلسطينية أو إحراجها عن الإدارة المستنزفة والمرهقة والمنكفئة عن المنطقة وأزماتها. وبناء على تلزيم واضح منها للنظام المصري، أعلنه وزير الخارجية أنتوني بلينكن (موقع أكسيوس) في أثناء عودته من جولته الإقليمية في أعقاب الحرب، والتي هدفت أساساً إلى ترتيب الظروف المناسبة لمنع اندلاعها من جديد.
تضمنت خريطة الطريق الأميركية وساطة مصرية بين إسرائيل وحماس لتثبيت التهدئة وفتح المعابر لإدخال الإغاثات والمساعدات الإنسانية العاجلة
وقد تضمّنت خريطة الطريق الأميركية وساطة مصرية بين إسرائيل وحركة حماس لتثبيت التهدئة وفتح المعابر لإدخال الإغاثات والمساعدات الإنسانية العاجلة، بما في ذلك معبر رفح طبعاً، ومن ثم الشروع في عملية إعادة الإعمار ومفاوضات صفقة تبادل أسرى، وصولاً إلى تهدئة دائمة في غزة. تم تحديث الخريطة في الأسابيع الأخيرة، لتشمل إعادة فتح ملف المصالحة بين حركتي فتح وحماس بوساطة مصرية لتحقيق الأهداف نفسها، المتمثلة باستمرار التهدئة ومنع انفجار الأوضاع الفلسطينية من جديد في وجه الاحتلال الإسرائيلي وأميركا ونظام السيسي نفسه. وقد انطلقت القاهرة لتنفيذ الخريطة الأميركية المتوافقة أصلاً مع مصالحها، وسعت إلى تأكيد حضورها السياسي، وحتى فرض وصايتها التامة في غزة، مع الانتباه إلى أن المنحة المالية التي أعلنها الرئيس السيسي والمقدّرة بنصف مليار دولار ستتم بتمويل إماراتي، واستحواذ تام من شركات التجارة والنقل والمقاولات المصرية على عملية إعادة الإعمار برمتها. وحتى لو لم تغطّ الإمارات منحة السيسي، فيمكن توفيرها أصلاً من أرباح البضائع والمستلزمات المصرية التي يتم إرسالها الآن إلى غزة عبر معبر رفح وبوابة صلاح الدين بدون دفع ضرائب وجمارك للسلطة الفلسطينية في رام الله، وتتولّى توريدها ونقلها إلى غزة شركاتٌ تابعةٌ للجيش لتثبيت التهدئة ومنع التصعيد وانفجار الأوضاع. وفي السياق طبعاً، تثبيت الحضور أو الوصاية المصرية الكاملة في غزة.
بناء عليه، لم يكن غريباً أبداً أن يتم تشكيل اللجنة المصرية لإعادة الإعمار برئاسة نائب مدير المخابرات، الجنرال ناصر فهمي، في تعبير عن عسكرة النظام، كما عسكرة مشاريع إعادة الإعمار بالمعنى الدقيق والكامل للمصطلح. وهذا ينقلنا مباشرة إلى تفاصيل المشاريع التي أعلنها وكيل وزارة الإسكان الفلسطينية، والمتضمنة إنشاء وحدات سكنية، اسمها مجازاً "مدينة العاشر من رمضان" في ثلاث مناطق مختلفة في القطاع، مع تشييد جسر في حي الشجاعية وتطوير شارع الرشيد الساحلي، وهي مشاريع مختارة بعناية وفق رؤية عسكرية أمنية أساساً.
لسنا بصدد إعادة إعمار جدّية وواسعة لغزّة، يفترض أن تتضمّن مشاريع ضخمة وعملاقة
وصف الوحدات أو الأحياء بالمدينة السكنية مبالغ فيه جداً، فالحديث هو عن ثماني بنايات أو أبراج من خمسة طوابق في كل حي، تحتوي على 300 إلى 500 وحدة سكنية وبمجموع ألف وحدة تقريباً في الأحياء الثلاثة، وهذا ما لا يمكن إطلاق تسمية مدينة سكنية عليه مطلقا. أما المناطق التي تم اختيارها لبناء الوحدات السكنية فهي بيت لاهيا (شمال قطاع غزة)، والزهراء في الوسط، وغرب جباليا أو ما تعرف بمنطقة المحاربين القدماء، وهي مجاورة وقريبة من الأراضي المحتلة عام 1948، وكانت قد شهدت صدامات واشتباكات عديدة منذ إعادة الانتشار الإسرائيلية في محيط غزة. وهذا يعني أن مصر تسعى إلى إقامة ما يمكن تسميتها مناطق تماسّ أو خطوط عازلة بشرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال لمنع أي اصطدام أو تصعيد بينها، ولفرض التهدئة حتى لو كان ذلك في حكم الأمر الواقع.
لافتٌ جداً أيضاً اختيار إقامة جسر في منطقة الشجاعية ليربط شمال شارع طريق صلاح الدين بجنوبه، علماً أن "الشجاعية" أيضاً واحدة من مراكز المقاومة الرئيسة، وتم فيها أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون، في أثناء حرب 2014، وصلاح الدين هو الطريق أو المحور الرئيس في قطاع غزة، والواصل بين شمال القطاع وجنوبه، ما يراكم بالتاكيد صعوباتٍ ميدانية وواقعية أمام أي احتمال للتصعيد وانفجار الأوضاع في المنطقة وغزّة بشكل عام. وستبني الجسر شركة مصرية تابعة للجيش، كون الشركات الفلسطينية لا تملك الخبرات اللازمة لذلك. وهنا فقط يمكن تخيل ما الذي سيتم زرعه من مجسّات وأجهزة لمراقبة (ورصد) ما يجري في المنطقة وغزة بشكل عام. وقد بدا لافتاً جداً كذلك اختيار تعمير شارع الرشيد الساحلي ضمن المشاريع المصرية، وهو من مناطق الانتشار البحري للمقاومة لحماية الساحل الغزاوي، كونه مسارا محتملا لتوغل الوحدات البحرية الإسرائيلية، ما يعني أيضاً نزع فتيل الاصطدام وتقليل احتمال الاشتباك في منطقة حيوية أخرى في غزة.
مع عدم التقليل من أهمية المشاريع المصرية، إلا أنها صغيرة ومحدودة، ولا تكلّف نصف مليار دولار
وقال ناجي سرحان، في حديثه لصحيفة فلسطين، إن وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية قدّمت كل الإحداثيات والتفاصيل الهندسية اللوجستية إلى اللجنة المصرية المعنية بإعادة الإعمار، وهي عسكرية وأمنية أساساً، كما ورد أعلاه، بينما أعلنت الوزارة نفسها رسمياً، في 31 أكتوبر/ تشرين الأول، عن تسليم الأراضي بشكل فعلي للجنة المصرية. ويثير الانتباه أيضاً، وحتى الاستغراب، أنه لا نية لإقامة مشاريع في جنوب قطاع غزة في مدينتي رفح وخان يونس، وهما الأقرب جغرافياً إلى مصر، ويفترض أن تنالا حصتهما ونصيبهما من إعادة الإعمار. ويعتقد الكاتب هنا أن السبب، إضافة إلى أن شمال غزّة ووسطها باتا منطقتي التماس الرئيسيتن بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، يكمن في أن هذه المنطقة الحدودية مراقبة جيداً من الجيش المصري، وثمّة توافق مع حركة حماس لتأمينها ضمن تفاهم تحسين العلاقات، إضافة إلى إقامة الجيش المصري منطقة عازلة بمحاذاتها داخل شبه جزيرة سيناء تتسع يوماً بعد يوم، بحيث تجاوزت مدينة رفح المصرية إلى مدينتي الشيخ زويد والعريش اللتين تحوّلتا إلى جيوب محاصرة ومعزولة عن غزّة بشرياً وجغرافياً.
أخيراً، وباختصار، ومع عدم التقليل من أهمية المشاريع المصرية السابقة، إلا أنها تبقى صغيرة ومحدودة، ولا تكلّف نصف مليار دولار. وبالتأكيد، لسنا بصدد إعادة إعمار جدّية وواسعة لغزّة، يفترض أن تتضمّن مشاريع ضخمة وعملاقة لتحديث البنى التحتية المنهارة، وتحسين شبكات المياه والكهرباء والمواصلات، وإقامة مناطق صناعية وتجارية حرّة، وبالطبع تنفيذ مشروعي المطار والميناء. وقبل ذلك وبعده، رفع الحصار الإسرائيلي نهائياً عن غزّة وإعادة الحياة إليها بمختلف جوانبها، بما في ذلك تواصلها مع الضفة الغربية والعالم الخارجي. ما نحن بصدده ليس سوى مسكّنات إعمارية لتحقيق الأهداف الرئيسية لخريطة الطريق الأميركية عبر فرض وصاية مصرية سياسية وأمنية، وحتى اقتصادية، على غزّة مع فوائد مضاعفة للنظام الذي سيحتكر السوق الغزّية، وتحديداً مواد البناء المختلفة ومستلزماته. وكما تكتب الصحافة الإسرائيلية دائماً، من الصعب تصوّر حدوث تصعيد كبير أو اندلاع معركة جديدة بوجود الآليات والجرّافات والشاحنات ومكتب اللجنة المصرية لإعادة الإعمار في غزّة.