الانفصام الإسرائيلي في مواجهة عمليات المقاومة

29 اغسطس 2023
+ الخط -

تقف المؤسّسة الإسرائيلية عاجزة ويائسة في مواجهة عمليات المقاومة الفردية والمتطورة في الضفة الغربية واتساعها وامتدادها جغرافياً من جنين ونابلس شمالاً إلى الخليل جنوباً، حيث المحافظة الأكبر مساحة وسكّاناً.
جاءت تصريحات قادة المؤسّسة بشقّيها، السياسي والعسكري، منفصمة ومتخبّطة ويائسة من إمكانية إيقاف موجة العمليات ووضع حد نهائي لها مع هروب منهجي موصوف ومعتاد من مواجهة الحقيقة المتمثلة بالاحتلال، أصل المشكلة وجذرها، وغياب أي توجّه إلى إيجاد آفاقٍ سياسيةٍ من أجل إنهائه بالمدى المنظور، كما انفلات المستوطنين وجرائمهم ضد الفلسطينيين المدنيين العزّل بحماية الجيش والمؤسّسة السياسية كتعبيرات عن أصل الأزمة، وتجاهل الجذر السياسي للقضية الفلسطينية بشكل عام.
بعد 24 ساعة على العملية الفدائية داخل مغسل سيارات في مدينة حوارة قضاء نابلس شمال الضفة الغربية الأسبوع الماضي، والتي أدّت إلى مقتل مستوطنيْن (أب وابنه) وقعت عملية أخرى على الطريق المؤدّي إلى الخليل جنوب الضفة قتلت فيها مستوطنة وأصيب زوجها بجروح خطرة.
ورغم التجييش والحشد والصخب الإعلامي الإسرائيلي المتعمّد والإشارة إلى مقتل 32 مستوطناً مقابل أكثر من 250 فلسطينياً منذ بداية العام الجاري في عنصرية واضحة وتكريس فوقية الدم اليهودي على العربي الفلسطيني، إلا أننا، من جهة أخرى، أمام تطوّر لافت في عمليات المقاومة التي باتت أكثر تنظيماً وتسليحاً وخطورة. ومع ذلك لا تزال متفرّقة وفردية حتى مع الخلفيات والروابط التنظيمية للمنفذين، وبالطبع من دون أن تمثل تهديداً استراتيجياً على الاحتلال يشي بزواله قريباً في ظل الواقع الفلسطيني المنقسم وغياب قيادة وطنية شرعية منتخبة وجديرة وذات رؤية، بينما يعود صخب الاحتلال وضجيجه أساساً إلى تجذّر العنصرية والاستعلاء والنظر إلى الفلسطينيين والعرب بدونية مع التفوّق الهائل على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية والأمنية، وتوقع خضوع الشعب الفلسطيني واستسلامه أمام هذا التفوّق والقبضة الحديدية وميزان القوى المختل لصالحهم، حيث وصل مدى العنصرية والغطرسة إلى حد أنهم لا يريدون للضحية أن تصرُخ وتدافع عن نفسها في وجه الجلاد، ولو بالحد الأدنى من الوسائل المتاحة أمامها.

تبدو العمليات الفردية هذا العام تحديداً وكأنها امتداد لأعوام الانتفاضة الثانية، وشبيهة بانتفاضة السكاكين

في العموم، تبدو العمليات الفردية هذا العام تحديداً وكأنها امتداد لأعوام الانتفاضة الثانية (2000 -2005)، وشبيهة بانتفاضة السكاكين 2014 – 2015، ولكن بشكل مسلّح وأكثر تنظيماً. ورغم امتلاك معظم المنفذين خلفيات وروابط وعلاقات فصائلية، إلا أننا لا نتحدّث عن بيئة فصائلية خططت وأشرفت على التنفيذ، الذي يتم بشكل فردي أو ثنائي (شخصي وعائلي) على الأغلب. وبالتأكيد من دون خلايا تنظيمية تقليدية، كما كان الحال سابقاً. وهذا تحديداً يمثّل مصدر قوتها وسبب أو أحد أسباب عجز الاحتلال عن مواجهة (وإنهاء) الظاهرة التي تتسع أكثر يوماً بعد يوم.
في السياق، قال والد منفذ عملية الخليل إن نجله أراد الردّ على اقتحامات المستوطنين الأقصى وممارسات وطقوس العربدة داخله، كما اعتداءاتهم المتزايدة ضد المدنيّين العزّل والقرى والبلدات الفلسطينية الآمنة، وردّاً على الاحتلال نفسه الذي يخنق الفلسطينيين، وينتهك حرّياتهم وحياتهم بأبعادها المختلفة.
في المقابل، اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه الجنرال يواف غالانت من موقع العملية نفسها إيران بالمسؤولية عن التمويل والتحريض على عمليات المقاومة أخيرا، ما أثار استغراب وانتقاد وحتى سخرية معلقين كثر في وسائل الإعلام العبرية. وفي جلسة مجلس الوزراء الأمني المصغر (الكابينت) التي عقدت مساء الثلاثاء إثر العملية مباشرة، تبدّى الانفصام والعجز كذلك، حيث طالب وزير الأمن القومي الأكثر تطرّفاً إيتمار بن غفير بفرض مزيد من الإجراءات العقابية ضد الفلسطينيين، والعودة إلى سياسة الإغلاق والحصار والعقوبات الجماعية والاغتيالات، وحتى تشديد الممارسات القمعية ضد الأسرى الفلسطينيين حيث مجال ولايته، واتهم الجيش بتبنّي ما وصفها بسياسة ناعمة بالضفة الغربية. بينما رفض مسؤولو الجيش والأجهزة الأمنية تلك المطالب، كونها ستؤجّج الأوضاع، وتزيدها قوة واندفاعاً. وردّ وزير الدفاع غالانت بانتقاد انفلات المستوطنين وتشجيع بن غفير لهم وعدم توفير بيئة مناسبة أمام الجيش واستنزافه، وتحميله أعباء إضافية، ناهيك عن تأجيج عمليات المقاومة نفسها بمواجهة انفلات المستوطنين وعربدتهم. علماً أن رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار، كان قد حذّر نتنياهو والمجلس الوزاري بمكاتبة رسمية من اعتداءات المستوطنين، وأنها ستؤدّي إلى تأجيج عمليات المقاومة الفلسطينية واتساعها ردّاً عليها. وفي النهاية، فوض المجلس نتنياهو وغالانت باستهداف منفّذي العمليات ومحيطهم ومرسليهم، حيث جرى أخذ قياسات منازل من تتهمهم إسرائيل بالمسؤولية عن العمليات التي نفّذت أخيرا، لهدمها وتشريد أهلها وسكانها في عقاب جماعي، عديم الجدوى وفق التجارب السابقة.

تسود المؤسّسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية أجواء التشاؤم والعجز، وحتى اليأس من إمكانية إيقاف موجة العمليات وخشية من اتساعها

إلى ذلك، تسود المؤسّسة العسكرية والأمنية أجواء التشاؤم والعجز، وحتى اليأس من إمكانية إيقاف موجة العمليات وخشية من اتساعها، خصوصا مع وصولها إلى منطقة جنوب الضفة الشاسعة والمترامية الأطراف. ورغم تحاشي استخدام تلك التعبيرات والمصطلحات أمام قادة الحكومة ووزرائها، إلا أن المؤسسة تقول، كما تنقل عنها وسائل الإعلام العبرية، إن ثمة نقاط ضعف عديدة في حركة الطرق بالضفة الغربية، وتتساءل بما تشبه الاستحالة كيف يمكنها حماية نصف مليون مستوطن وسط ثلاثة ملايين فلسطيني.
وفي الخلفيات العامة، وبعد الحديث عن الاحتلال ثم الاحتلال ثم الاحتلال، وهروب المؤسّسة السياسية الرسمية المنهجي من الحل، باتجاه مصطلحاتٍ من قبيل الحفاظ على الواقع الراهن وتقليص الصراع والسلام الاقتصادي، ثمّة أسباب ومعطياتٌ تتعلق بالأجواء المحيطة بالعمليات لا يمكن تجاهلها، مثل إضعاف إسرائيل المنهجي السلطة الفلسطينية وقيادتها وإهانتها صبحاً ومساءً، بما لا يمكّنها من القيام بواجباتها الأمنية وفق اتفاق أوسلو، وبالتالي فقدانها قدرتها وشرعيتها وثقة الناس بها.
لا بد من الإشارة كذلك إلى استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وما تصفه قيادة جيش الاحتلال بجزّ العشب، أي قتل المقاومين واعتقالهم، وهو مصطلح عنصري، أدّى كذلك إلى تصعيد المقاومة. مع التذكير بإطلاق عملية "كاسر الأمواج" قبل عام ونصف العام، ونشر قرابة 23 كتيبة للجيش في الضفة الغربية، من دون أن يؤدّي ذلك إلى إيقاف العمليات، طالما أن أسبابها مستمرّة. ومن هنا أيضاً يمكن التنبؤ بنتائج عمليات عسكرية موسّعة أكثر في الضفة، كالتي يطالب بها بن غفير وحلفاؤه الأكثر تطرّفاً في الحكومة الإسرائيلية.

أشكال المقاومة وأساليبها، يحدّدها الشعب فرادى وجماعات، كما قيادته الشرعية المنتخبة الحائزة تفويض الناس وثقتهم لإدارة الصراع

يتبدّى الهروب الإسرائيلي إلى الأمام، كذلك عبر التهديد باغتيال قادة فصائل المقاومة ومسؤوليها في غزّة والخارج، "لبنان أساساً" واتهامهم بالمسؤولية عن العمليات، في انفصام أيضاً وعجز عن رؤية الأسباب والمعطيات الحقيقية الكامنة في الضفة الغربية نفسها، حيث الاحتلال والمستوطنون والاستيطان، وإضعاف السلطة وإهانتها وعجزها عن حماية الناس، ناهيك عن تحقيق آمالهم الوطنية، وتوفير أبسط مقوّمات الحياة الكريمة لهم. وفي الانفصام الإسرائيلي، ثمّة مطالبات أيضاً بالتضييق على الأسرى، وسلبهم حقوقهم المكتسبة التي نالوها بتضحياتٍ جسام عبر سنوات وعقود طويلة من النضال والصمود، مع تحذيراتٍ أمنية من أنها ستؤدّي إلى تأجيج الأوضاع، وربما حتى انفجارها، ليس فقط في السجون، وإنما في الضفة الغربية وغزة بشكل عام.  
في الأخير، بتركيز، تمثل جذر القضية الفلسطينية ولا يزال بالاحتلال. وبالتالي، كانت الحلول ولا تزال سياسية، لا أمنية وعسكرية وفق القاعدة الإسرائيلية الفاشلة "ما لم يتحقّق بالقوة يتحقّق بمزيد منها"، مع التأكيد الدائم على امتلاك الشعب الفلسطيني الحقّ الأصيل والراسخ بالمقاومة وفق كل الشرائع والمواثيق الدولية. أما أشكال المقاومة وأساليبها، فيحدّدها الشعب فرادى وجماعات، كما قيادته الشرعية المنتخبة الحائزة تفويض الناس وثقتهم لإدارة الصراع بالوسائل المجدية لتحقيق الآمال الوطنية في الحرية والسيادة والاستقلال وتقرير المصير.

F6BF5A98-6609-40D3-A7C7-65180D715C5D
ماجد عزام

كاتب فلسطيني، رئيس تحرير نشرة المشهد التركي