عن العلاقات القرن أفريقية الخليجية

08 ديسمبر 2022
+ الخط -

قدّم المفكر الكيني علي مزروعي مفهوم الـ"أفرابيا"، قبل أكثر من ثلاثة عقود، أساسًا للعلاقات العربيّة الأفريقية، واعتبرها كتلة مترابطة عضويًا من الناحية الاستراتيجية. بل وذهب إلى الحديث عن حلم قيام تجمع حضاريّ بين شبه الجزيرة العربيّة والدول الشرق أفريقية؛ انطلاقًا من المشتركات الجغرافية والثقافيّة والحضاريّة لمواجهة النظام العالمي الآخذ بالتشكّل آنذاك.

كان علي مزروعي ينطلق من تراث الاشتراكية اللينينية والنظر إلى الأمور من الأسفل، عكس خرائط أيديولوجيا الاستعمار الأوروبي، والتي صوّرت أفريقيا كتلة متجانسة ومقيدة بجغرافيا محدّدة؛ واستشكل مزروعي التعريف الجغرافيّ السائد للقارّة، أنها تمتد من المحيط الأطلنطي غربًا حتى البحر الأحمر شرقًا، ومن المحيط الأطلنطي جنوبًا حتى البحر الأبيض المتوسط شمالًا، بالإضافة إلى الجزر الواقعة في المياه المحيطة بالقارّة شرقًا وغربًا. وحاجج بأنه لا يمكن فصل الجزيرة العربية عن القارّة الأم، أفريقيا، وأن لديها امتدادات من النواحي الجيولوجيّة التاريخيّة والثقافية. واعتبر أن حفر قناة السويس بوصفه فعلًا ماديًّا يخدم المصالح الأوروبيّة وتجارتها مع العالم الخارجي هو الذي فصل بين الإقليمين الشمالي والجنوبي للبحر الأحمر. وثمّة مفكّرون آخرون من غرب القارّة، أمثال الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، استشكل مقولة أفريقيا نفسها، وطرح أنها شيء لا يمكن فهمه من خلال الجغرافيا فقط، أو العرق، أو اللون الأسود، بل هي هوية مفتوحة ومتحرّكة على الدوام.

تمتلك منطقة القرن الأفريقي مقومات العمق الاستراتيجيّ الخليجي، باعتبارها تتميز بمقومات جيوسياسيّة وتاريخيّة وحضاريّة وثقافيّة تشترك فيها مع منطقة الخليج

اللافت في طرح مزروعي أنه يُموقع تفكيره السياسي عن أفريقيا (ولها) في موطنه الشرق أفريقي، للنظر إلى معانيها وتحديداتها، ويرفض اعتبار مصالح أفريقيا كتلة متجانسة ككل. وأشار إلى أربعة محدّدات لمفهوم "أفرابيا": الثقافي الإسلامي الأفريقي، ويشمل الشعوب المتحدثة بالهوسا والسواحلية والصومالية، ومحدّد النسب والمصاهرة في شمال أفريقيا وشرقيها، ومحدّد الجغرافيا، ويشمل كاينية عضوية جامعة الدول العربية، والمحدّد الأيديولوجي المتصل بحركات التحرّر اليسارية في دول ما بعد الاستقلال الأفريقية.

بعد ثلاثة عقود من هذا التنظير، جرت مياه كثيرة، وتبخّرت أخرى؛ لم يقم هذا الحلم الذي دعا إليه مزروعي لمواجهة النظام العالمي الذي كان يتشكّل وقتها، إلا أن منطقتي الخليج والجزيرة العربية من جهة، والقرن الأفريقي من جهة أخرى، واللتين يتقارب عدد سكانهما، جذبتا اهتمام العالم، وإنْ بطريقتين مختلفتين. لقد برز الخليج بوصفه بؤرة اهتمام دولي بحكم موارده الكبيرة، في حين اجتذب القرن الأفريقي عيون العالم بصراعاته الداخلية والتنافس الخارجي عليه، والذي أصبح الخليج نفسه جزءًا لاعبًا فيه في السنوات الأخيرة.

وتبرز محاولات من حين إلى آخر لإعادة فهم العلاقات بين الإقليمين بغية تصويبها، ويأتي كتاب "القرن الأفريقي عمقًا استراتيجيًّا خليجيًّا" لمؤلفه مدوخ عجمي العتيبي (مركز الجزيرة للدراسات، 2021) جزءًا من هذا الاهتمام. يتصدّى لفهم العلاقات بين القرن الأفريقي والخليج وتحليلها، من خلال الانطلاق من مفهوم العمق الاستراتجي، والذي صكّه المفكر السياسي التركي داود أوغلو. وينطلق الباحث من فرضية أن القرن الأفريقي يمكن أن يصبح عمقًا استراتيجيًا للخليج، باعتبار أن العمق الاستراتيجيّ للسياسة الدوليّة يرتكز على علاقة تكاملية تعكس المصالح المشتركة بين الأطراف المعنية في رسم العلاقات الاستراتيجيّة، بهدف مواجهة التحدِّيات السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة المشتركة.

توجّهت قطر إزاء دول القرن الأفريقي إلى لعب دور الوسيط في العلاقات البينية أو الداخلية لهذه الدول

من نافل القول إن منطقة القرن الأفريقي تحتل موقعًا جيوسياسيًا جعل منها ساحةً خلفيةً للجنوب العربيّ، وتتنافس القوى العظمى في إيجاد موطئ قدم فيها، فعلى سبيل المثال، تستضيف دولة صغيرة، مثل جيبوتي، وحدها قواعد عسكرية صينية فرنسية، أميركية، ويابانية، وإسبانية، وإيطالية. وقد أعربت الهند والسعودية أيضًا عن اهتمامهما بإنشاء قواعد فيها، فيما باشرت روسيا محادثات مع إريتريا والسودان بشأن وجودها الاستراتيجي في البحر الأحمر.

بالنسبة للوجود الخليجي، يسجّل التبادل التجاري والاقتصادي والثقافي مستويات متدنية. ومع تفاوت العلاقات البينية بين بلدان الخليج ودول القرن الأفريقي، إلا أنها تظل، في مجملها، على مستوى هزيل، وهذا ما توصل إليه صاحب الكتاب، من خلال رصد البيانات والتقارير السنوية الرسمية عن مستوى التبادل التجاري بين الجانبين، ويتأكّد ذلك أيضًا من خلال إجراء الباحث مقابلات مع عينة من النخب السياسية والأكاديمية الفاعلة في المنطقتين، لاستجواب آرائهم عن تقييمهم العلاقات من النواحي الاقتصادية والتجارية والثقافية. إلا أن الدول الخليجية اندفعت في العقد الأخير في الانخراط في القرن الأفريقي سياسيًا، وتأتي الإمارات أبرز المنخرطين في ديناميات دول القرن الأفريقي، من خلال الاستحواذ على الموانئ التجارية، ووصل اهتمامها حد إقامة قواعد عسكرية إماراتية في صومالي لاند وإريتريا، قبل أن يتم تفكيكهما في بدايات هذا العام. وأيضًا بادرت السعودية بأنشاء جسم إقليمي سياسي باسم "منتدى البحر الأحمر"، وهو تحالف إقليمي يضم ثماني دول تطل على البحر الأحمر. بينما جاء توجّه قطر إزاء دول القرن الأفريقي إلى لعب دور الوسيط في العلاقات البينية أو الداخلية لهذه الدول، مثل وساطتها في خلافات السودان ودولة إرتيريا، أو اتفاقية دارفور، أو الوساطة بين النِّزاع الحدودي بين إرتيريا وجِيبُوتي عام 2010، وكذلك الاتفاقية أخيرًا بين الفرقاء السياسيين في تشاد. ويفسـر صاحب الكتاب أن هذا الحراك السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ الخليجيّ الذي شهدته منطقة القرن الأفريقي، أخيرًا، مدفوع بإدراك صانع القرار في دول منطقة الخليج بأهمية المنطقة التي أصبحت تمثل عمقًا استراتيجيًّا للمنطقة العربيّة عامة، والدول الخليجيّة بصفة خاصة. ولكن صانع القرار الخليجي لم يكن دائمًا على توافق إزاء قضايا القرن الأفريقي الداخلية، وتجلّى ذلك في التداعيات الوخيمة للأزمة الخليجية على استقرار دول القرن الأفريقي، حيث تنافست أطراف الأزمة للحصول على الحلفاء والنفوذ والوجود المادي في ممرّ البحر الأحمر على مكان مثل الصومال، وفرض شروط توازن إقليمي جديد في داخل دول القرن الأفريقي.

مع تفاوت العلاقات البينية بين بلدان الخليج ودول القرن الافريقي، إلا أنها تظل، في مجملها، على مستوى هزيل

الأمر الآخر المهم الذي يدعو إليه هذا الكتاب ضرورة نقل أعمال الإغاثة والمساعدات الإنسانية التي تقدّمها دول الخليج إلى دول القرن الأفريقي إلى شراكة تنموية وتبادل تجاري واقتصادي، ما يحقق المصلحة للطرفين، والاستثمار في المشاريع التنموية، مثل البنية التحتية والتعليم وقطاعات النقل، والري والزراعة، والارتكاز على زيادة حجم التبادل التجاريّ بين الطرفين، ورفع نشاط (وحجم) الشركات الخليجيّة الكبرى العاملة في مجال تنفيذ المشاريع الاستثماريّة التنموية، وأخيرًا دراسة طبيعة الاتفاقيات الاستثماريّة الموقعة بين دول منطقة الخليج العربي مع بلدان القرن الأفريقي، التي تكون مجحفة بعض الأحيان بالتواطؤ مع الحكومات الفاسدة في القرن الافريقي.

يتنهي صاحب الكتاب إلى أن منطقة القرن الأفريقي تمتلك مقومات العمق الاستراتيجيّ الخليجيّ، باعتبارها تتميز بمقومات جيوسياسيّة وتاريخيّة وحضاريّة وثقافيّة تشترك فيها مع منطقة الخليج العربيّ. وهو إحياء لمفهوم الـ"افرابيا"، وترجمة فعلية بأهمية الشراكة، انطلاقًا من المعطيات التاريخية والجغرافية والمصالح المشتركة الماثلة.

صهيب محمود
صهيب محمود
كاتب وباحث صومالي، مهتم بالقرن الأفريقي. ماجستير في الأدب المقارن