أشباح فاغنر في أفريقيا
يتواصل السجال بشأن مآلات تفجّر الصراع بين مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة والقيادة العسكرية الروسية، لا في الداخل الروسي فحسب، وإنما أيضًا حول انعكاساتها في أماكن وجودها في العالم، فالشركة غدت، في السنوات الأخيرة، أهم أدوات السياسة الخارجية للنفوذ الروسي العسكري في العالم. ولعبت دورًا مهمًا في ساحات القتال في سورية، وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي والسودان، قبل أن تلفت أنظار العالم مساهمتها في الحرب الروسية الأوكرانية.
قانونيًا، شركة فاغنر غير مسجلة في الداخل الروسي. وانخرطت في أفريقيا لأسباب خاصة بها، مثل جني الأموال. لكن الكرملين وجد أنها ذراع مفيدة لما يحاول القيام به دبلوماسيًا وعسكريا من خلال الخدمة في الحروب بالوكالة. وتقدّم الشركة خدماتها العسكرية لدى الجماعات والأنظمة العسكرية في أفريقيا، في مقابل الحصول على امتيازاتٍ في الموارد. ويقول محللون إن الهدف الرئيسي لروسيا في أفريقيا في هذه المرحلة حشد الدعم الدبلوماسي الذي تأمل في استخدامه في أماكن مثل الأمم المتحدة، فعملت موسكو منذ العام 2006 على إعادة بناء وجودها ودورها في أفريقيا. ووقعّت 19 اتفاقية تعاون عسكري مع الحكومات الأفريقية بين 2015 و2019 فقط. وتخطّط بهذا السياق، لعقد القمة الثانية والمنتدى الاقتصادي والإنساني الروسي الأفريقي في الفترة من 26 إلى 29 يوليو/ تموز الجاري.
وجد الكرملين شركة فاغنر فرصةً لا تتكرّر لإعادة توجيه مصالح سياسته الخارجية في أفريقيا لتقديم التدريب والمشورة للأنظمة العسكرية التي تواجه احتجاجات سياسية أو تظلّمات جهوية أو عرقية. لكنها مارست إنكارًا طويلًا بشأن انخراطها في أفريقيا في السابق، إلا أن هذا تبدّد مع مرور الوقت. وكانت تقارير صحافية واستخباراتية كثيرة تذهب بوجود تلك القوات التابعة لموسكو. ففي يوليو/ تموز 2018، أجرى ثلاثة صحافيين روس، أورخان جمال، مراسل حربي محترف، ألكسندر راتسورغييف، وثائقي، كيريل رادتشنكو، مصوِّر تلفزيوني، تقصيا عن وجود "فاغنر" في جمهورية أفريقيا الوسطى، بتكليف من مركز إدارة التحقيقات، وهو مشروع أطلقه المعارض الروسي المقيم في المنفى، ميخائيل خودوركوفسكي. إلا أنهم اغتيلوا قرب مدينة سيبيت (Sibut) في شمال شرقي العاصمة بانجي، ونُسِبَتِ الحادثة إلى مُسلَّحين مجهولين، بحسب ما مصادر حكومية وأخرى روسية في شهر أغسطس/ آب من العام نفسه. لاحقًا أقرت وزارة الخارجية الروسية علانية بوجود "فريق تدريب" عدد أفراده 175 شخصًا، وقالت إنهم أرسلوا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى "في أواخر يناير/ كانون الثاني- أوائل فبراير/ شباط 2018 لكن من دون الإشارة إلى ما إذا كان الموظفون المدنيون يعملون في "فاغنر" أو مقاولين عسكريين رسميين.
لم تفوّت واشنطن، وخصوم روسيا الآخرون، التعبير عن القلق إزاء أنشطة "فاغنر" في أفريقيا، وخصوصا مالي
في عام 2018 دخل ما يقرب من ألف جندي من "فاغنر" أفريقيا الوسطى للدفاع عن حكومة الرئيس فوستين أرشانج تواديرا ضد هجمات المتمرّدين على العاصمة بانجي. وتقوم بحراسة الرئيس الشخصية منذ ذلك العام. في المقابل، حصلت "فاغنر" وشبكة الشركات التابعة لها على حقوق غير مقيدة في السيطرة على منجم ذهب نداسيما المربح، حسبما ذكرت دورية Africa Intelligence في أواسط يوليو/ تموز 2018. وهي منطقة غنية بمناجم الذهب واليورانيوم كانت تسيطر عليها شركات فرنسية. وعلى هذا، غدت أفريقيا الوسطى ساحة مواجهة عنيفة بين الروس والفرنسيين.
في كلمته في أعقاب التمرّد أخيرا، خصّص وزير الخارجية الروسية لافروف معظم حديثه عن حلفائه في القارّة الأفريقية، وقال إنهم ذهبوا إلى هناك استجابة للحكومات الأفريقية، وإن "محاولة التمرّد الفاشلة لن تسبّب صعوبات في علاقات روسيا الاتحادية مع الأصدقاء". وأكد أن الاستعدادات للقمة الروسية الأفريقية جارية على قدم وساق، وأنهم يعملون على إضافة "نقاط جديدة مهمة للغاية إلى جدول أعمالها"، في إشارة إلى البحث عن دور "فاغنر" في تلك الدول. لكنه أوضح أيضًا أن الاتفاقيات أبرمت مباشرة بين الحكومات المعنية وشركة فاغنر، وسيكون مصيرها متروكًا للدول الأفريقية وشركة فاغنر لتقرّر ما إذا كانت مهتمة بمواصلة هذا الشكل من التعاون، لضمان أمن هيئات السلطة هناك.
لم تفوّت واشنطن، وخصوم روسيا الآخرون، التعبير عن القلق إزاء أنشطة "فاغنر" في أفريقيا، وخصوصا مالي، لا سيما أن الشركة تُتهم بأنها وراء إخراج البعثة الأممية من مالي في هذا الأسبوع. واتهم منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، جون كيربي، مجموعة فاغنر بسرقة موارد مالي الطبيعية، وقال إنها قتلت آلاف المدنيين، واتهم بريغوجين نفسه بأنه مهندس عملية إخراج بعثة الأمم المتحدة من مالي.
البلدان الأفريقية تنتظر عصرًا جديدا من سيطرة الجيوش المرتزقة في الدول الهشّة في عالم آيلٍ إلى الاحتراب والاحتراق أكثر فأكثر
وترتكب "فاغنر" انتهاكات لحقوق الإنسان في ليبيا وموزمبيق وأفريقيا الوسطى ودول أفريقية أخرى. في ليبيا مثلا، ارتكبت قوات فاغنر التي قاتلت إلى جانب "الجيش الوطني الليبي" الذي يتبع خليفة حفتر خلال حملة طرابلس 2019 عمليات قتل خارج نطاق القانون وزرع ألغام أرضية في مناطق مدنية. وأخيرا، ذكرت تقارير أن الشركة تزوّد مليشيا قوات الدعم السريع السودانية بالصواريخ خلال حربها ضد الجيش السوداني. كما أفادت "هيومن رايتس ووتش" بأن المرتزقة الروس قادوا القوات المالية في مذبحة راح ضحيتها 300 مدني في وسط مالي، في هجوم استمر أيامًا على منطقة عسكرية. وذكرت مصادر لـ VICE World News، أن نسبة المدرّبين الروس إلى القوات الوطنية في المجزرة التي استهدفت أيضًا المتطرّفين، كانت ثلاثة إلى واحد، ما يشير إلى وجود عدد كبير من القوات الروسية التي تقاتل على الأرض.
سينعكس بالتأكيد تفجّر الصراع بين الشركة والإدارة الروسية في طبيعة وجود الشركة في أفريقيا، خصوصًا أنها تسيطر على مناطق غنية بالموارد عبر شبكة من الشركات المرتبطة بها. يعني ذلك خسارة روسيا أماكن اعتبرتها تحت سيطرتها الجيوسياسية لصالح شركات فرنسية، وكانت غالبا تستخدم موسكو حقّ "الفيتو"، لمنع معاقبة هذه الدول من الأمم المتحدة على خرق حقوق الإنسان. أما بالنسبة للدول الأفريقية فهي على أعتاب عصرٍ جديدٍ لزرع المليشيات والمرتزقة وتغذية النزاعات الإثنية والقبلية، وطبعًا استمرار نهب مواردها وإفقار شعوبها. والجديد أن دولا بأكملها ستكون فريسة لشركة خارجة عن السيطرة الروسية الرسمية. السيناريو المخالف لكل ذلك عودة العلاقات بين "فاغنر" وبوتين على ما كانت عليه، وهو الخيار الأقلّ ترجيحا، فإعلان بريغوجين طموحاته بإطاحة بوتين الشخصية تستبعد هذا الخيار. أما البلدان الأفريقية فتنتظر عصرًا جديدا من سيطرة الجيوش المرتزقة في الدول الهشّة في عالمٍ آيلٍ إلى الاحتراب والاحتراق أكثر فأكثر.