عن الانتصارات الأوكرانية
منذ مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، يتابع المهتم بملف الغزو الروسي أوكرانيا نجاح جيش كييف في تحرير آلاف الكيلومترات المربّعة من البلاد، شرقاً وجنوباً. يمكن عزو ذلك إلى أسباب عدة، بدءاً من التدريبات الغربية للجيش الأوكراني والأسلحة التي يحصل عليها من الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة. وأيضاً بسبب التكتيكات العسكرية، كنقل القوات من جبهة إلى أخرى. ولكن في كل الأحوال، تُسجّل للأوكرانيين شجاعتهم في القتال دفاعاً عن بلادهم.
قد يبدو هذا الأمر غريباً بعض الشيء، في زمنٍ تبدو فيه القوميات لدى بعضهم وكأنها فعل ماض ناقص، لا يشبه قروناً غابرة. في المقابل، أدهش التراجع الروسي مراقبين عسكريين، رأوا فيه أمراً لم تشهده روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، سوى في حرب الشيشان الأولى (1994 - 1996). وهو تراجع تُمكن قراءته في تفاصيل عدة، تبدأ في حالة الاستنزاف الذي تشهده القوات الروسية، بعد نحو سبعة أشهر من الحرب. وبمعزل عن الحديث عن هبوط في المعنويات، إلا أن تحوّل الجيش المهاجم إلى جيش مدافع، في اجتياح كان يفترض أن ينتهي خلال أسابيع على الأكثر، يطرح مسألة قدرة الجيش الروسي على الحفاظ على النَفَس الطويل، ومدى تقبّل جنوده عقيدة محفّزة لحمل البندقية في أوكرانيا.
أغلب الظن أن الجيش الروسي، وبحكم سبب الانخراط في صفوفه على العموم، أي الفقر، لا يكون الحافز للجندي الروسي "السعي إلى رفع راية الأمة"، بقدر ما يكون بحثاً عن شقّة في ضواحي موسكو، والحصول على امتيازات طبية وبعض الرفاهية المفقودة في مسقط رأسه. ومهما حاولت القيادتان، السياسية والعسكرية، فإنها فشلت في إقناع الجنود بجدوى القتال في أوكرانيا. طبعاً، سيختلف الأمر لو سعت أي دولة لاجتياح روسيا. درسا نابوليون بونابرت وأدولف هتلر نموذجان في كيفية تحوّل المجتمع الروسي إلى جيش واحد لصدّ الغزو. والفشل في المحافظة على التقدّم في ضواحي العاصمة كييف، والانسحاب بعد ارتكاب انتهاكات عدة في إربين وبوتشا، في الربيع الماضي، ثم التراجع في منطقتي خاركيف وخيرسون، تُظهر وكأن الجيش الروسي تمدّد في بدايات هجومه، قبل الانسحاب من دون عودة. وهنا يصبح درس أفغانستان بالنسبة للجيش السوفييتي (1979 - 1989) أكثر واقعية، ولكن في زمن أقصر بكثير للغاية.
لا يجب أن يغيب عن البال أن لروسيا قدرات صاروخية واسعة النطاق، وقد تلجأ إليها لوقف التقهقر السريع لقواتها، لكن في ذلك مخاطر أكبر من القتال الميداني. هنا، سيتحوّل الجيش الروسي إلى جيش يخشى القتال المباشر، ويكتفي بالقصف عن بعد، ويسعى إلى الإمعان في تدمير المواقع المدنية في أوكرانيا. وما فعله للرد على خسائره المتلاحقة في الأسبوعين الماضيين، بقصف محطات الكهرباء والمياه في خاركيف وكريفيي ريه، مثالٌ لما يمكن أن يحققه القصف الصاروخي بعيد المدى. وهو في الوقت نفسه إقرارٌ بالهزائم الأخيرة، حتى إن التعبئة العامة، في حال حصلت في موسكو، ستؤكد المأزق الذي غرق به الكرملين، كما سيسمح لمن يناصر روسيا، سواء في دونباس أو شبه جزيرة القرم، أن يستشعر عدم القدرة الروسية على "حمايته"، ما سيدفعه إلى اللجوء إليها، لإدراكه في لاوعيه أن كييف ستستعيد أراضيها، وفقاً لاستقلال 1991. وسيشعر هذا الفرد أنه إما ارتكب خطيئةً بالتمرّد على كييف، أو أنه يعلم أن أوكرانيا ما بعد الحرب لن ترحم ذوي الأصول الروسية ولا من يتحدث لغتها.
تبقى نقطة جوهرية: هل من خلافاتٍ بدأت بالظهور إلى العلن في الدوائر الأمنية في روسيا؟ من دون تخمينات، يكفي أن مقتل داريا دوغين، في انفجار كان يستهدف والدها المفكر ألكسندر دوغين، في 20 أغسطس/ آب الماضي، مرّ وكأن شيئاً لم يكن، فلو كان لكييف يد في الاغتيال، لما تردّد الرئيس فلاديمير بوتين في قصفها بعنف... الحرب باتت في ظلال الكرملين.