عن إبادة بوتشا وحادثة الفلوجة

15 ابريل 2022
+ الخط -

تتعرّض أوكرانيا، منذ بداية الغزو الروسي، لقصف وقتل ودمار تجعلها في غنى عن مبالغات رئيسها، فولوديمير زيلينسكي، في وصف بشاعة هذا كله. إطلاقه وصف "الإبادة الجماعية" على مجزرة بوتشا التي لم يجر التحقيق بشأنها، وجزمُه أن العالم لم يشهد منذ الحرب العالمية الثانية جرائم أشدّ وحشيةً من جرائم الروس في بلده، فيهما ازدراء تجاه ملايين الضحايا الذين هلكوا عبر العالم، من فيتنام ورواندا إلى سربرنيتشا والعراق وسورية، ناهيك بما يكابده الفلسطينيون منذ النكبة.

ساهمت خُطب زيلينسكي، النارية وشبه اليومية، في تحريك كل آليات العدالة الدولية لمساءلة النظام الروسي، وفي مقدمه فلاديمير بوتين. رفعت أوكرانيا قضايا ضد روسيا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية، وبدعم 39 دولة عضوا، شرعت المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي الأوكرانية. ويجري الحديث منذ الشهر الماضي (مارس/ آذار) عن إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة روسيا على جريمة العدوان في أوكرانيا، وقد أطلق عشرات من كبار المحامين والسياسيين البارزين حملة لتأسيس هذه المحكمة. بالنظر إلى حجم الدّعم الذي تحظى به أوكرانيا، فإن إمكانية إنشاء هذه المحكمة الاستثنائية قائمة، بتفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو تحت رعاية الاتحاد الأوروبي أو مجلس أوروبا، أو غيرها من الخيارات المطروحة والمتاحة.

العدالة الدولية لا يمكنها إلّا أن تكون انتقائية لاستحالة محاكمة مرتكبي كل الجرائم الدولية، وما أكثرها! لكن الاستجابة الغربية للحرب الروسية على أوكرانيا تفوق الانتقائية، فلم يشهد العالم، منذ محاكمات نورمبيرغ للقادة النازيين، تسخير هذا الكمّ من العقوبات. ولم تفعّل كل آليات العدالة الدولية لمساءلة جرائم حرب على هذا النحو، ما يجعل منها عدالة خارقة، استثنائية، لحربٍ غير استثنائية في ضوء حروب العدوان التي شهدها العالم، والتي ارتكبت أميركا عددًا كبيرًا منها منذ الحرب العالمية الثانية. وقدّر معهد واتسون في جامعة براون الأميركية أن الحروب الأميركية تسبّبت في قتل مباشر لـ 929 ألف امرأة ورجل وطفل في العراق وأفغانستان وسورية واليمن وباكستان، وكان للعراق النصيب الأوفر من الضحايا، إذ قد فاق عددهما 200 ألف قتيل، قضى 30 ألفا منهم مع نهاية إبريل/ نيسان 2003، أي بعد 41 يوما فقط على العدوان الأميركي، بينما بلغ عدد الضحايا في أوكرانيا 1611 مدنيا، تحققت الأمم المتحدة من قتلهم إلى حدود يوم 6 إبريل/ نيسان الجاري.

الحروب الأميركية تسبّبت في قتل مباشر لـ 929 ألف امرأة ورجل وطفل في العراق وأفغانستان وسورية واليمن وباكستان

ولم تتحقق الأمم المتحدة، أو أي طرف غير أوكراني، بعد من الجرائم التي نُسبت للروس في بلدة بوتشا (شمال غربي العاصمة). ولولا جهود الإعلام البديل لما طُرحت فرضية وقوف كتيبة أزوف، المعروفة بتوجهاتها النازية، وراء جرائم بوتشا. في مقالة بعنوان "أسئلة خطيرة عن بوتشا"، نُشرت في الموقع الإلكتروني لـStandpoint Zero، يوم 5 إبريل/ نيسان الحالي، يطرح الصحافي الاستقصائي، جيزون مايكل ماكان، علامات استفهام بشأن غيابٍ تام لأي تقارير عن "مجزرة بوتشا" في الفترة التي تلت انسحاب الروس يوم 30 مارس/ آذار إلى حدود 3 إبريل/ نيسان.

يستهلّ ماكان تحقيقه باستحضار تصريحاتٍ أدلى بها عمدة بوتشا، أناتولي فيدوروك، يوم واحد إبريل/ نيسان، مؤكّدا تحرير بلدته بعد انسحاب الجنود الروس. ويظهر العمدة مبتهجا في شريط فيديو نُشر على صفحة بلدة بوتشا على "فيسبوك"، واصفا الحدث بـ "اليوم المجيد"، ما يجعل المرء يتساءل إن كانت كل تلك البهجة ممكنة لو كانت مئات جثت المدنيين الأوكرانيين متناثرة في شوارع بلدة صغيرة، عدد سكانها حوالي 37 ألف نسمة! وينتقل الصحافي إلى تغطية صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تحرير بوتشا الذي لم ترد فيه أية إشارة إلى المجزرة، مع أن مصوّرها الصحافي، دنيال بيريهولاك، جال شوارع البلدة صباح يوم 2 إبريل/ نيسان برفقة كتيبة أزوف.

ويؤكد ماكان أنه خلال 72 ساعة لم يُشر أي مسؤول أوكراني إلى مجزرة روسية، ولم يصدر عنها أي تقرير صحافي، محلي أو دولي، ولا توجد صورة واحدة أو شريط فيديو أو رسالة نصية أو حتى رسالة على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الثلاثة أيام التي فصلت بين انسحاب الجنود الروس واكتشاف جرائم شنيعة نُسبت لهم. ويرصد ماكان ظهور أول التقارير ليوم 3 إبريل/ نيسان، أي بعدما أكملت كتيبة أزوف والقوات الخاصة التابعة لوحدة "سافاري" عملية "تطهير المدينة" التي أعلنت عنها ممثلة سلطة مجلس بوتشا، إيكاترينا أوكراينتسيفا، يوم 1 إبريل/ نيسان. وكانت قد صرّحت بأن هذه العملية ستجري بغرض "تطهير المدينة والقضاء على المخرّبين والمتواطئين مع القوات الروسية". ويخلص تحقيق ماكان إلى أن "مجزرة بوتشا" هي، على الأرجح، حصيلة أعمال انتقامية ضد من اشتبه فيهم التعاون مع الرّوس.

لا يجرؤ الإعلام الغربي الرّسمي، وحتى الإعلام العربي لسببٍ ما، على تغطية جرائم الأوكرانيين، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا وخلاله

تجَاهَل الإعلام الرسمي، الغربي ومعه العربي، تحقيق ماكان الذي عمّقه تحقيق الصحافي الاستقصائي الأميركي، جووي لوريا، في موقع كونسورتيوم نيوز، وراح يردّد تصريحات زيلينسكي، الممثل الذي يلعب دور الرئيس ودور وزير البروباغاندا. في تعليقه على صور جرائم بوتشا التي بدأ بثها يوم 3 إبريل/ نيسان، قال زيلينسكي: "هذه إبادة جماعية.. على أمهات الروس أن يرينها، ويرين أي نوعٍ من الأوغاد قد ربّيْن. قتلة ولصوص وسفاحين". إن تأكّد تحقيق ماكان، فإن هذه الأوصاف تنطبق على كتيبة أزوف ووحدة "سافاري" الأوكرانيتين.

لا يجرؤ الإعلام الغربي الرّسمي، وحتى الإعلام العربي لسببٍ ما، على تغطية جرائم الأوكرانيين، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا وخلاله، كما لا يجرؤ على التحقيق في مدى صحّة ادّعاءات امتلاك واشنطن مختبرات أسلحة بيولوجية وتطويرها أسلحة كيميائية في أوكرانيا، وتدريبها مقاتلي أزوف منذ 2015، وغيرها من القصص المحرّمة. كثيرة هي الخطوط الحمراء في الإعلام الغربي الذي يدّعي الاستقلال، وتفضح تحيزه لمصالح مُلّاكه في تغطيته الحروب، خصوصا التي يخوضها الغرب في العالم. وقد كشف العدوان الأميركي على العراق عورته كما لم يحدث من قبل، إذ لم يستطع حتى نقل حقائق مؤكّدة عن مجازر "الفلوجة" التي أطلق عليها اسم "الحادثة" أو "تجاوزات"، وانتهت القصة قبل أن يبدأ التحقيق.

في الرابع من إبريل/ نيسان الماضي، صادف الحديث عن "إبادة بوتشا" الذكرى الـ 18 لانطلاق مجازر الفلوجة (في العراق) التي تجدّدت قي نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، بعدما أصدرت واشنطن أوامر بقتل كل ما يتحرّك في مدينة المقاومة، فجنّدت 15 ألفا من المارينز والمرتزقة، وحاصرت المدنيين، وأرعبتهم بطائراتها العمودية وترسانة جهنمية من الدبابات والمدافع الثقيلة والصواريخ. قصفوا المدنيين بالقنابل العنقودية والغاز الخانق والفسفور الأبيض، وحتى اليورانيوم المنضّب، محلّلين ما حرّمه القانون الدولي، قانونهم، من أسلحة الدمار الشامل. دمّروا البشر والحجر والشجر وحوّلوا نصف المدينة إلى ركام، ولم تبق إلا الجثث ورائحة الموت تملأ شوارع الفلوجة عدة أيام، فاضت المقابر بآلاف الجثث المتحللة والمتفحّمة، حتى دُفن بعضها في ملعب لكرة القدم، وحدائق البيوت المنكوبة.

على عكس بوتشا، مجازر الفلوجة مؤكّدة وموثّقة، إلى جانب جرائم الجيش الأميركي في زنازين أبو غريب وعرس القائم التي لم تُقم لها محكمة خاصة

لم تجد قصص ضحايا العدوان الأميركي في العراق طريقها إلى الإعلام الغربي. مقصّ الرقابة كان حريصا على ألا تظهر صور الضحايا العراقيين، وألا يستمع العالم لمأساة الناجين من الحصار والقصف والتجويع والتشريد. غُيّب العراقيون، وحكم عليهم بالصّمت، وحوّلوا إلى أرقام تقريبية، وحذفت إنسانيتهم حتى لا تتدفق قصص مأساتهم الإنسانية مثلما يحدث اليوم في أوكرانيا التي تحولت إلى أكثر الحروب أنسنةً لضحاياها حتى ظنّها زيلينسكي أمّ الحروب، وأكثرها قداسة.

على عكس بوتشا، مجازر الفلوجة مؤكّدة وموثّقة، إلى جانب جرائم الجيش الأميركي في زنازين أبو غريب وعرس القائم التي لم تُقم لها محكمة خاصة، ولم يُساءل عنها الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، ورئيس الوزراء البريطاني، توني بلير. وبعد سنوات من الفحص والتدقيق، قرّرت المحكمة الجنائية الدولية ألا تفتح تحقيقا في جرائم الحرب التي ارتكبها مواطنون بريطانيون في العراق، واكتفت بالمحاكمات الصورية التي أجرتها السلطات البريطانية من دون أن تُفضي إلى أية مساءلة جنائية.

لا يطالب العالم الغرب بعدالة دولية مثالية، بل فقط بتقليل التنافر العجيب، والفجوة العميقة، والهوة الشاسعة بين العدالة الخارقة والاستثنائية التي يُحضّر لها اليوم لمساءلة روسيا عن جريمة عدوانها، واللّاعدالة في جرائم عدوانه على شعوب العالم.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري