عن أن الحرب هي الاستثناء

19 يونيو 2024
+ الخط -

من المحتمل جدّاً أن تكون أول جملة يسمعها طالب تخصّص علوم سياسية، أو علاقات دولية، في محاضرته الجامعية الأولى، إن الحالة الطبيعية في المجتمعات الإنسانية هي السلم والحرب هي الاستثناء. والأرجح، كذلك، أن أستاذه كان ليخبره، للدلالة على صحّة هذا القول، أن أحداً لا ينتظر انتهاء حالة السلم لأنها أصل الأشياء، في حين أننا ننتظر انتهاء الحرب، عندما تندلع، للعودة إلى الحالة الطبيعية، وهي السلم. وباستخدام مقاربة الزمن، فإن عدد سنين الحرب بالتأكيد أقلّ كثيراً من عدد سنين السلم، حتى لو كنّا نتحدّث عن مجتمعاتٍ تمتهن القتال، أي تعيش على الغزو والسلب، كما في المجتمعات البدائية. والناس فوق ذلك لا يحتسبون سنين السلم، لأنها عادةً طويلة، في حين أنهم يحتسبون سنين الحرب، فتقول مثلاً إن الحرب الفلانية دامت كذا عدداً من الأيام أو الشهور أو السنين. وإذا حصل وأشرنا إلى فترات السلم بين الحروب، نقول عادة إن المعاهدة الفلانية، أو الصلح الفلاني، أرسى حالة من السلم في المنطقة الفلانية دامت عقوداً، مثل مؤتمر فيينا (1814-1815) الذي أرسى حالة من السلم النسبي في أوروبا استمرّت مائة عام (حتى الحرب العالمية الأولى).

ليست منطقتنا العربية استثناءً في هذا السياق، رغم كل المحاولات التي تميل إلى وصفها بأنها أقلّ استقراراً، أكثر اضطراباً، أو أكثر ميلاً إلى العنف من غيرها. لا بل هناك بالتأكيد مناطق في العالم كانت أكثر عرضةً للصراعات والحروب من منطقتنا، مثل أوروبا، وهذا ليس لوجود عيبٍ في الأوروبيين، أو في ثقافتهم مثلاً، ولكن بفعل عوامل موضوعية، منها محدودية الموارد الطبيعية، وبرودة الطقس، وضيق المساحة في أوروبا في مقابل كثافة سكانية عالية، فضلاً عن تعدّد الإثنيات والقوميات الأوروبية، وسيطرة الكنيسة، وغير ذلك من أسبابٍ لا تجعل الأوروبيين بالضرورة أكثر ميلاً إلى استخدام العنف من غيرهم. وقد لوحظ، أخيراً، كيف أسقطت الحرب الروسية الأوكرانية مقولة إن أوروبا تجاوزت، في مرحلة ما بعد الحداثة، الصراعات والحروب، باعتبار أن استخدام العنف بين الدول وفي داخلها تعبيرٌ عن حالة أدنى من الحضارة أو الثقافة أو الاجتماع الإنساني.

شهدت منطقتنا في العقود الماضية حالاتٍ من الصراع والعنف أكثر من غيرها، لكن لهذا أسبابه الموضوعية أيضاً، داخلية وخارجية. ويعد الاحتلال الإسرائيلي الأرض العربية أحد أهم أسباب عدم الاستقرار في منطقتنا، حيث اندلعت نتيجة حل مشكلة أوروبية (المسألة اليهودية) على حساب العرب ستة حروب (1948 - 1949، 1956، 1967، 1973، 1982، 2023 - 2024). وكما تدلّ الحرب الحالية على غزّة فإن منطقتنا مرشّحة لمزيد من العنف، إذ تبدو الأمور، بسبب السياسات الإسرائيلية والغربية الداعمة لها، وكأنها تسير في دائرة مغلقة (vicious circle)، أي أننا كلما اعتقدنا أننا نسير إلى الأمام، بحسب حركة التاريخ، نجد أنفسنا وقد عُدنا إلى حيث كنّا. لاحظ أن إسرائيل تعود اليوم إلى احتلال قطاع غزة الذي كانت انسحبت منه قبل نحو عقدين، وتفكّر في إنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان، بعد ربع قرن على إخلائها.

إضافة إلى القضية الفلسطينية، تعد التدخّلات الخارجية سبباً آخر رئيساً من أسباب الصراعات المعندة في منطقتنا (الغزو الأميركي العراق، مثلاً)، وهناك مشاريع الهيمنة الإقليمية أيضاً، والتي يبرُز من بين أسوأها وأخطرها المشروع الإيراني. وهناك مشكلة الاستبداد وما يرتبط بها من فساد، وقمع، وظلم، وسوء إدارة، وغياب العدالة في توزيع الثروات. ولا تُنسى طبعاً الصراعات المرتبطة بتنوّع مجتمعاتنا وانقساماتها طائفياً ومناطقياً، وجهويّاً، وقبليّاً، فضلاً عن وجود جماعات تتبنّى أيديولوجيات عدمية، ومشاريع حروب أبدية. لكن هذا كله لا يجعلنا استثناءً عن غيرنا، ولا يجعل الصراع الحالة الطبيعية في مجتمعاتنا. السؤال الجوهري هنا ليس ما إذا كانت الحروب تنتهي في منطقتنا، أسوةً بباقي مناطق العالم، بل كيف وعلى أي وجه. هل تنتهي بحلول عادلة، تؤسّس لسلام طويل، أم تنتهي على وجهٍ يولد حروباً جديدة. تحدّد الإجابة ما إذا كان الصراع في منطقتنا حالة طبيعية تتخللها فترات سلم مؤقتة، أو العكس.