عن "حماس" ونظام الأسد وداء العنصرية
كما العادة، ما أن انتشرت أنباء الجهود المبذولة وراء ستارٍ لتطبيع العلاقة بين حركة حماس والنظام السوري، حتى ثار الجدل من جديد بين متلمسي الأعذار والتبريرات لـ"حماس"، اعتبارها حركة مقاومة تكابد معضلات استراتيجية وحصاراً من الشقيق والعدو على السواء، والمناوئين والمحرضين عليها، الذين يرون إما أنها ضلّت طريقها، أو كشفت عما يصفونه حقيقتها الانتهازية. ومن الضروري الإشارة مسبقاً إلى أن هذا المقال لا يسعى إلى محاولة تفسير دوافع "حماس" توسّل فتح صفحة جديدة مع نظام الدكتاتور بشار الأسد، بضغط إيراني وتنسيق يقوده حزب الله، وكنت قد كتبت عن هذا تحت عنوان "حماس بين المبدئية وإكراهات الواقع"، (العربي الجديد، 11/6/ 2021). ما يهدف إليه المقال التنبيه إلى خطيئةٍ كارثيةٍ يساهم كثيرون منا في اقترافها في مثل هذه المسائل الاستقطابية، إذ ينتقل الخلاف من جدل في تصرّف سياسي لطرفٍ ما إلى تنابز وشتائم قبيحة وبذيئة على أساس عنصري وإقليمي، وفي حالات أخرى إلى تعظيم ألم جرح شعب عربي مقابل جرح شعب عربي آخر. وآخر ما نريده مزيد من الشرذمة الشعبية العربية التي تغذّيها قوى أجنبية، فضلاً عن النظام الرسمي العربي، والذي لا يريد أن تستعيد شعوبه مفهوم وحدة مصيرها فتكون نهايته.
لا ينبغي أن يكون تضامننا العربي، ونحن أمة واحدة، رهينة اجتهادات أو ضرورات أو أخطاء أو طَيَشانِ أو إجرام، (سمّها ما شئت)، أنظمة أو تيارات تزعم تمثيل بعض شعوبنا، صدقت أم لا. تعاضد الجسد العربي وتداعيه لبعضه بعضاً بالسهر والحمى، إذا استعرنا التوصيف النبويِّ لجسد الأمة المسلمة الواحدة، لا يعترف بالتعاقدية ولا النفعية المتبادلة. إنما هو تعاضدٌ فطريٌّ طبيعي من دون حسابات وغير مشروط، فإن لم يفهم بعضهم هذا وأصرّ على عدم استيعابه، فإن حتمية نجاتنا جميعاً تقتضيه، أحببنا أم كرهنا. ومن ثمَّ، من المعيب حقاً أن نشهد سجالات عنصرية بغيضة بين فلسطينيين وسوريين عن أنباء تقارب حركة حماس مع نظام الأسد. بغض النظر عن اعتبارات "حماس" وضروراتها، التي تقدّم نفسها حركة مقاومة لتحرير شعبها وأرضها، فإن حساباتها تلك لا تلزمنا، تفهمناها واقتنعنا بها أم لا.
الخطر أن ينتقل الخلاف من جدل في تصرّف سياسي لطرفٍ ما إلى تنابز وشتائم قبيحة وبذيئة على أساس عنصري وإقليمي
كفلسطيني، سأبقى رافضاً نظام الأسد وإجرامه، ولن أتقبل يوماً محاولات تطبيعه وتجميله، حتى ولو خرج الشعب السوري عن بكرة أبيه، وهذا لن يحصل، يهتف له. هو، وغيره من الأنظمة الاستبدادية العربية، أعداء جَمعِيّونَ لنا نحن العرب. وكما أن للشعب الفلسطيني الحق في أن يعيش حرّاً كريماً، فللشعب السوري الحق ذاته. وكما أن إسرائيل مجرمة بحق الفلسطينيين، فإن النظام السوري، مدعوماً من روسيا وإيران وحزب الله، مجرم بحق شعبه. وكإنسان يحاول أن يكون متسقاً مع المنظومتين الأخلاقية والفكرية اللتين يدعيهما، أتفهم نظرة السوري والعراقي واليمني إلى عدوان إيران وأدواتها في المنطقة، تماماً كما يقارب الفلسطيني إسرائيل. هذا لا يعني أنه لا توجد فروق وتعقيدات في السياقات الاستراتيجية الكبرى، وتفاوتاً في طبيعة التحدّيات التي تمثلها إسرائيل وإيران بالنسبة لنا، فإسرائيل هي العدو المركزي لهذه الأمة. هذه حقيقة راسخة تبقى تستدعي نفسها تلقائياً عند كل عربي، مهما تاهت بوصلته جرّاء تحدّيات جمَّة يواجهها. لكن، ينبغي أن نُبقى في عين الاعتبار أن بسطاء كثيرين في شعوبنا سيبقون عاجزين عن استيعاب هذا راهناً، ذلك أنهم تحت عدوان دموي وحشي من طرف آخر.
سبق أن كتبت أن "المكانة الخاصة بفلسطين في وعي الأمة، وحتى لا تتعرّض لهزّات مرحليةٍ هنا وهناك، فإن هذا يتطلب من أصحاب القضية أن لا يجعلوا منها قضية خلافية، وأن لا يضعوها في حالة تناقضٍ مع جراحات الأمة الأخرى، الغائرة والنازفة. مركزية القضية الفلسطينية لا تعني أحاديتها في فضائنا، ولا تسفيه عدالة تطلعات شعوب عربية أخرى تسعى إلى الانعتاق من ربقة القمع والظلم والاستعباد" ("عن مركزية فلسطين في الوعي العربي"، العربي الجديد، 3 /12/2021). وأضيف هنا، أننا، نحن المثقفين والمواطنين العرب العاديين لا ينبغي لنا أبداً أن نتقمّص ضرورات جهات معينة، حتى لو اقتنعنا بصدقها، ونتحوّل مسوّغين لها، مُطَبِّعينَ لسوئها، مدافعين شرسين عنها، بحيث تنتهي معياراً نتحاكم إليه. ضرورات هؤلاء، حتى وإن كانت مشروعة، ليست ضروراتٍ لعوام الناس، ونحن منهم.
كما أن للشعب الفلسطيني الحق في أن يعيش حرّاً كريماً، فللشعب السوري الحق ذاته
إذا كان هناك من يعتذر لعلاقة "حماس" بإيران وحزب الله، ومحاولة التقارب مع نظام الأسد مجدّداً، بإكراهات الواقع، فالمنطق يقول إنهما أمرا شرٍّ اضطرت إليهما، ومن ثمَّ يغدو من غير المقبول أبداً أن يبلغ الطيش ببعض هؤلاء حدَّ محاولة تطبيعهما والتبخيس من معاناة السوريين بذريعة "مركزية فلسطين". ينسحب المنطق ذاته على من يعتذر ويبرّر لمحاولات بعض القوى الوطنية السورية تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا، أو حتى إسرائيل وبعض الأنظمة العربية القمعية، بذريعة المصالح العليا للشعب السوري، مع معرفة الجميع بسجل هؤلاء في العداء لأمتنا وجرائمهم بحقها. لنفترض هنا أن مقاربات تلك الجهات، فلسطينية وسورية، وجهات عربية أخرى، مبنيةٌ على إكراهات ضاغطة فوق طاقتهم، ولنفترض فيهم الصدق والوطنية، فهذا لا يغير من الواقع شيئاً. ضروراتهم، كما يقاربونها، لا تلزمنا، ولا ينبغي لنا تشريعها، وسنبقى ننتقدها ونرفضها، ونصرّ على تغييرها، حتى لا تصبح معياراً نُشَرَّبُهُ وَنُطَبِّعَهُ. أما تحويل مثل ذلك الخلاف شرخاً بين الشعبين الفلسطيني والسوري، أو بين أي شَعْبَيْنِ عربيين آخرين، فتلكم عنصريةٌ بغيضةُ نتبرّأ منها، ونقول تعساً لنافخي كيرها من كل الأطراف.