عندما يخدم العنف السياسي والتلاسن السلطوية في مصر
تشهد الساحة السياسية المصرية حالة من المواجهات والتلاسن بين بعض شخوصها، لا فروق كبيرة تلحظ بين المنتمين لجيل السبعينيات، والذين تربّوا ضمن تنظيماتٍ سياسيةٍ أكسبتهم الخبرات، أو فئات أصغر عمريا، التحقوا بالعمل العام قبيل ثورة يناير، عبر الحركات الاجتماعية، والتي كان ينقصُها، بحكم التكوين، الطابع المؤسّسي الذي يباشر عملية تربية الكادر وإعداده، ما أفقد أغلب أعضائها خبرات إدارة الحوار والصراع والانضباط والبناء القيمي. ورغم هذا التفاوت، بين جيلين، نشهد بين حين وآخر، وفي ظلال ظرف أزمة سياسية، تكرار العنف، والذي يتّخذ مظهرا من التلاسن المعلن في وسائط عامة، بعدما كانت هذه السلوكيات حبيسة جلسات النميمة.
يقول المشهد في مصر إن الأزمة ليست في سياسات النظام وشخوصه وحسب، ولكن أيضا في تركيبة ما تبقّى من المجتمع السياسي
وتحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت يوما أداة للدعاية والحشد من أجل شعارات التغيير، إلى وسيلةٍ لتكريس الصراع على أسس من الفردانية والذاتية، ومن دون تعقل أو معايير، مع كذب وافر، بما يحوّل ساحات التواصل، في أحيان كثيرة، إلى فضاء للعنف يحتوي اتهامات وعبارات مشينة، تستدعي الخجل، وخصوصا أنها صادرة عن أشخاص رفعوا شعارات احترام وقبول الآخر والتسامح، والقدرة على الحوار، وغيرها من قواعد مبدئيةٍ ومتطلبات أوليةٍ للاجتماع البشري.
تهدر هذه الصراعات، وللأسف، قواعد السلوك السياسي المنضبط، وتتحوّل وسائل التواصل معه إلى فضاءات للعنف، يتشابك فيها السياسي بالشخصي، ويتكرّر فيها سلوك الحط من الآخر والتشويه بما في ذلك تناول الحياة الخاصة.
وصلت بعض حالات التلاسن إلى جهات التحقيق، بما يشكّل حالة مستجدّة على الساحة، وهي دالّة على العجز عن إدارة الاختلاف بين شخوصٍ من المفترض أنهم عملوا معا في مشاريع للتغيير قبل ثورة يناير. ويُفترض أن يكون لدى جيل السبعينيات قدر وافر من الخبرات والتجارب في التحالفات، وقدرة أبلغ على استخدام آليات النقاش ولغة مناسبة. ولكن يبدو أن غياب النضج السياسي (والاجتماعي أحيانا) لا يفرّق بين أعمار المتصارعين وخبراتهم، وأن التحلق حول الذات نقطة جوهرية في الخلافات، حتى وإن اتصل بالعمل العام ما بين اصطفاف مع السلطة أو المعارضة.
تبدو حالة الهزيمة التي تعرّضت لها أجيال عدة، إخفاقات ثورة يناير، وصعود السلطوية، عوامل أساسية في هذه الخلافات، يبحث المهزومون عن إثبات الوجود، التفرّد، نفي الخيبات، إظهار الانتصار حتى ولو في معارك وهمية، عبر إبدال الصراع مع السلطة إلى اشكال أخرى من الصراع، أحيانا مع الآخر، الهدف الأسهل في النزال، وحتى ذلك يدور من دون نقد للرؤى والتوجّهات والسلوك السياسي.
تحولت التكوينات السياسية في أغلبها إلى مشاريع فردية وشلل لا تمثل فئات اجتماعية تلزمها بسلوك عقلاني أو تحاسبها على خطواتها
ومع الهزيمة، وإخفاق المشروعات العامة، يبدو التخندق حول الذات، بما في ذلك جني المصالح وكسب التأييد اجتماعيا، الأكثر حضورا، حتى وإن غُلفت المصالح الذاتية في ثوب المصلحة العامة. وخلال ذلك، يحمل كل واحد من المتخاصمين جردلا من اتهامات يلقي بها على الآخر. ومع الخيبات التي لحقت ببعض نخب في الانتفاضات العربية، تظهر تحوّلات في الشخصية والسلوك والتوجّهات، يتقلّص الهدف العام، التغيير لصالح "الشعب" أو الفئات الطبقية المفترض أن يمثلوها إلى مساحاتٍ وأهدافٍ أقل، مصالح مجموعات محدودة (بل وربما شلة) وصولا إلى تقزّم الأهداف إلى مكاسب شخصية، تنخفض أسقف الآمال، والسلطوية تدير اللعبة وتستفيد منها، ولا يمكن ردّ هذه الصورة، من صراعاتٍ وتلاسن، والتي تبدو أنها في طريقها إلى التسارع، من دون رؤية تداعيات الهزيمة، صحيح أنها ليست السبب الوحيد في ظهور صور العنف الذي يتخذ مظهرا لغويا، فجذورها متنوّعة ومتشابكة، منها طبيعة التيارات السياسية وتكوينها وشخوصها أيضا، لكن الأكيد في المشهد أن السلطة هي المستفيد الأول من هذه الحالة غير المبرّرة، فإلى جانب قدرتها على تشتيت القوى السياسية وتوسيع الانقسام بينها منذ الثورة يساهم التلاسن المستمر، والتافه في مضامينه في أحيان كثيرة، في رسم صورة بالغة التشوّه والتفاهة، للقوى السياسية، بحيث تبدو في حالة تيه. وفي المقابل، تبدو السلطة، رغم أخطائها، أكثر انضباطا وحفاظا على صورتها، مقابل سياسيين يرفعون شعاراتٍ بشأن الإصلاح وقبول الآخر والمشاركة والتوافق وحفظ الكرامة، وهم يمارسون النقيض، بل يستعينون بأساليب الترهيب والقدح الشخصي، ويلجأ بعضُهم إلى ممارسة التحريض المتبادل والشتائم، وتقديم البلاغات والتقاضي.
ليست حالة احتجاز الناشر هشام قاسم، على خلفية بلاغ وزير القوى العاملة السابق كمال أبو عيطة، والذي اتهم قاسم بالسبّ والقذف، إلا صورة لهذا الشتات، وغياب العقلانية والكفاءة في إدارة الاختلافات، مع غياب التواصل وعدم قدرة على دخول وسطاء ييسرون النقاش، وسبل جبْر الضرر، وتحويل الخلاف الذي بدا سياسيا، وإن كان شخصيا، إلى حوار حقيقي يتضمّن صراعا بين رؤية سياسية وطبقية، لكن الواقعة انتهت بتيسير سجن أحد الأطراف، هشام قاسم، والذي بدا رافضا السلطوية في تعبيراته، قبل أن يحتجز وبعدها، وبدا أبو عيطة ميسرا لانتقام السلطة من القيادي في التيار الحر، وسجنه احتياطيا بلا مبرّر قانوني، كما ذهب فريق الدفاع عنه، والذي فوجئ بضم بلاغ أبو عيطة إلى بلاغ جديد بالتهم نفسها من أفراد من قسم السيدة زينب، حيث يحتجز قاسم، هذا السلوك ليس مبرّرا، وخدم عمليا السلطوية بسيف القانون.
تستفيد السلطة من هذه الصراعات في إضعاف المجتمع السياسي، وتشلّ مستقبل حركة المجتمع عبر مزيد من النزاع والتقسيم، حيث تحجز هذه الصراعات بناء تحالفاتٍ تهدف إلى التغيير أو الإصلاح. وبذلك، تبقى مساحة السياسة هامشية لصالح السلطوية، والتي لا تريد، بطبيعة الحال، بناء تحالفاتٍ تمثل فئات طبقية، بغض النظر، تمثل مفقرين وفئات شعبية، أو رجال أعمال. ومع النزعة الفردية، والتشتت، يظل مجتمع السياسة ضعيفا، أفرادا بلا علاقات تجمعهم سوى لغة الخلافات.
يبحث المهزومون عن إثبات الوجود، التفرّد، نفي الخيبات، إظهار الانتصار حتى ولو فى معارك وهمية
يبدو أن جزءا من أزمة هذا العنف الذي يتصاعد في صور من التلاسن بين أسبابه غياب قواعد الحوار ومدوّنات السلوك وافتقاد للعقلانية، بجانب تحوّل التكوينات السياسية في أغلبها إلى مشاريع فردية وشلل لا تمثل فئات اجتماعية تلزمها بسلوك عقلاني أو تحاسبها على خطواتها، هذا جعل التنظيمات طاردةً أي عناصر جادّة، تعمل على إنتاج فكري حقيقي، وتمارس سلوكا سياسيا منضبطا وجادّا يتصف بالكفاح والقدرة على الفاعلية، بداية من مواجهة الهزائم وتجاوز الأخطاء الماضية، والتعلم منها، وكذلك مراجعة تصوّرات سابقة، كانت تمثل أوهاما تم ترويجها. لذا لم يكن مستغربا غياب كوادر تتّصف بالعقلانية والراشدة، من مفكّرين وأكاديميين لأسباب عدّة، ليس وحسب نتاج تعرّضهم للضغوط، ولكن أيضا للضيق من أجواء الزيف والتفاهة، التي باتت ملامح أساسية للتكوينات السياسية وسمات قيادتها وكثيرا منها يتّصف بالانتهازية والتلوّن والهشاشة. حوّل هذا الوضع السياسة إلى لعبةٍ ومحاكاةٍ أكثر منها فعلا حقيقيا يحمل تصوّرات ورؤى قابلة للتنفيذ عبر خطط وأهداف محدّدة، هذا بعيدا عن تصنيف الاتجاهات السياسية ما بين ثورية وإصلاحية، أو ليبرالية ويسارية، فالأزمة تقريبا تطاول الجميع. ويمثل هذا التشوّه وغياب قواعد مبدئية ومعايير للسلوك السياسي وضعا معزّزا للسلطوية، ويساهم في استدامتها. ويبدو أن مصر تحتاج فئات وأحزابا جديدة وترسيخا لقواعد منظّمة، واستدعاء لكتلة التغيير، بما في ذلك إلى مفكّرين تفتقدهم الحركة السياسية.
يقول المشهد في مصر إن الأزمة ليست في سياسات النظام وشخوصه وحسب، ولكن أيضا في تركيبة ما تبقّى من المجتمع السياسي، والذي يحتاج إلى فرز وتحالفات على أسس مبدئية واجتماعية، منحازة للناس، وقادرة على تحديد أهدافٍ قابلةٍ للتحقّق وتخلق التراكم، وقبل كل شيء امتلاك الأمل الذي يجعل التكوينات دوما تسعى إلى التعاون والتوافق واحترام الشركاء، لأن الهدف عام وهو تجاوز الأزمة الحالية بعملٍ مشترك لا بديل عنه.