عندما يتحرك ملف الصحراء المغربية
قال بطرس غالي، قبل نحو ثلاثين عاما، إن قضية الصحراء الغربية (أو المغربية) ثاني أعقد قضايا العالم (بعد قبرص). والبادي أن عتاقة هذه القضية المهملة دوليا تجيز الذهاب إلى أن قطبةً عويصةً تجعل الوصول إلى التسوية أمرا بعيدا، وتيسّر القول إن تواطؤا عاما يُؤْثِر بقاء الحال على ما هو عليه، منذ اتفاق وقف إطلاق النار (أو الهدنة؟) بين المغرب والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (بوليساريو)، المتوصّل إليه برعاية الأمم المتحدة في العام 1991. بل إن زائرا للمنطقة، كما صاحب هذا التعليق في 2013، يتجوّل في مدينتي العيون والداخلة هناك، ويلتقي كثيرين من ناسِهما، ويزور منشآتٍ ومشاريع في غير قطاع، يجد نفسَه يسأل مضيفيه، أعيانا ووجهاءَ ومسؤولين مغاربة، أين هو بالضبط نزاع الصحراء المتحدّث عنه في أرشيفات الصحافة؟ .. يحثّك على سؤالك هذا فائض الأمن والأمان هناك، وما تسمعُه في أحاديث السكان عن همومٍ وشؤونٍ تقليديةٍ في عيشهم، لا تختلف عما قد تسمعها في مكناس أو طنجة. وعندما يتخفّف الرسميون من التحفظ، وبعد أن يستعرضوا حديثا عن ورشات عملٍ نشطةٍ ومصانع وثرواتٍ سمكيةٍ وغيرها، تلقاهم يبوحون بما لا يستطيعون كتمانَه، وموجزُه الدعاء بالهداية لـ "إخواننا في الجزائر"، والهداية هذه أن يتوقّفوا عن محاربة المغرب، سياسيا ودبلوماسيا، ودعما عسكريا لبوليساريو. تسمع هذا أيضا في الرباط من رئيس الحكومة ووزير الخارجية في حينه، عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني، ومن رئيس البرلمان ووزراء ومسؤولين آخرين.
تتوطّن القناعة لدى مؤسسة الحكم، وكذا عموم مكونات المشهد السياسي والثقافي العام، في المغرب، بأن نفض الجزائر يدَها من ملف الصحراء وحدَه ما يأتي بالتسوية، عندما تتوقّف عن إسناد بوليساريو، وترى أن مصالحها الحيوية، وكذا مصالح المغرب العربي الكبير، بلدانا وشعوبا، في أن تتحلّل من ارتباطها العضوي المتين مع هذا التشكيل الذي ناصرت إعلانه "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، إبّان الحرب الباردة في سبعينيات القرن الماضي. ويرى المغاربة، في عمومهم، أن بلدهم قدّم أقصى ما في وسعه من مرونةٍ ونياتٍ حسنةٍ من أجل دفن هذا النزاع. وأنه، في الوقت نفسه، لن يتنازل عن وحدته الترابية، وأن خطة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، والتي أعلنها الملك محمد السادس، في 2007، هي أقصى تجاوبٍ منه في إطار سياسة اليد الممدودة من جانبه باتجاه الحل. ويؤكّدون أن بلدهم، وبخطابٍ للملك نفسه في 2018، باقٍ على دعوته الجزائر إلى مائدة حوارٍ مباشرٍ غير مشروط لحل جميع الملفات العالقة، ولتجاوز كل الخلافات والإشكالات.
يأتي بهذه التداعيات التحرّك العسكري الذي بادر إليه المغرب، أخيرا، لطرد عناصر من "بوليساريو" من معبر الكركرات الحدودي مع موريتانيا، وتأكيده إنه لن يتهاون مع أي اعتداء في المنطقة، وإنه يحافظ على قواعد الاشتباك. وقد أفيد بأن القوة العسكرية المغربية أدّت مهمتها، كما تم التخطيط لها، وإن ما جرى لم يتجاوز صفته "مناوشاتٍ" في الخطوط الأمامية، وليس معارك حقيقية، أو "بروفة حرب". ولأن العالم العربي لا تنقصُه أزماتٌ وتوتراتٌ وحروبٌ وصراعات، فإن المأمول ألا يتدحرج كلام بوليساريو غير المتّزن، عن وقف التزامها بهدنة 1991، إلى حربٍ متجدّدةٍ هناك. والأرجح أنها إنما أرادت مداراة إخفاقها في تحرّشها العسكري الذي يحتاج واحدُنا إلى قدرات خاصة في التحليل السياسي لمعرفة بواعث افتعاله، بعد محاولتين مثيلتيْن (أو أكثر) في العامين الماضيين، مع القناعة المسبقة بأن هذه النوبة المستجدّة من استفزاز المغرب، واختبار أعصابه، ما كان لبوليساريو أن تُقدم عليها، من دون ما هو أكثر من ضوء أخضر جزائري. وهذه بياناتُ مؤازرةٍ للمغرب تتوالى، من حكومات عربية عديدة (قطر والإمارات مثلا)، فيما عدوانيةٌ بالغة الفظاظة في الإعلام الجزائري ضد المغرب تفضح القصة كلها، سيما بعد لغةٍ جافّةٍ اتصفت بها تصريحاتٌ للرئيس عبد المجيد تبون، ورموز العهد الجديد في الجزائر، تجاه المغرب .. ولأن زمن الديمقراطيين يعود إلى البيت الأبيض، وهؤلاء نغّصوا كثيرا على الرباط إبّان سنوات أوباما، ولأن تدبيرا ما يتم طبخُه في الجزائر بشأن "حق تقرير المصير للشعب الصحراوي"، فإن المرجّح أن موقعة الكركرات دشّنت تسخينا مرتقبا في ملف الصحراء المغربية، أو ما كان ثاني أعقد صراع في العالم بحسب بطرس غالي.